الذكاء الاصطناعي العماني

دعم الابتكار على رأس أولويات "الرؤية".. و"جائزة مبادرات الشباب" الأكبر تأثيرًا

تمويل القطاع الخاص للمبتكرين يخدم أهدافه قبل أن يُحقق الغايات العامة

 

 

سعدتُ كثيرًا بإعلان وزارة الصحة مؤخرًا تدشين برنامج جديد للكشف عن مرض سرطان الثدي باستخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وهو تطور هائل وخُطوة غير مسبوقة تدعم إستراتيجية عُمان الرقمية والسعي نحو التَّحول الرقمي.

ولقد تحدثنا أكثر من مرَّةٍ عن أهمية مواكبة مُخرجات الثَّورة الصناعية الرابعة وفي المُقدمة منها الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والروبوتات، وجميعها يُمكن توظيفها في خدمة التنمية الشاملة والمُستدامة في السلطنة. فالنتائج التي ستتحقق من هذه التقنيات وتأثيراتها على المسار التنموي لبلادنا، لا يُمكن حصرها في هذا المقال، فالذكاء الاصطناعي في القطاع الصحي سيعمل على زيادة نسب الكشف المُبكر عن سرطان الثدي، ولقد أثبتت التجارب- حسبما أعلنت الوزارة- نجاعةً وفعاليةً ودقةً في الكشف وصلت إلى 96 في المئة، وهي نسبة عالية للغاية، كما إنَّ استخدام هذه التقنيات سيُساعدنا على بناء قواعد بيانات تتسم بالشمولية والدقة، وسهولة الوصول إليها، والبناء على هذه البيانات عند إعداد الخطط المستقبلية والإستراتيجيات.

وسنوياً وخلال فترة تلقي طلبات التنافس على جائزة الرؤية لمُبادرات الشباب- التي تضع دعم الابتكار على رأس أولوياتها- يأتينا شبابٌ واعدٌ من مختلف ولايات السلطنة، يحملون في رؤوسهم الفكر الابتكاري النيِّر، ويحلمون بمُستقبل أكثر ازدهارا لعُماننا الحبيبة، فنجد أعدادا كبيرة منهم تطور تطبيقات وبرمجيات تعتمد اعتماداً أساسياً على الذكاء الاصطناعي.. إنِّهم يقرأون المُستقبل ويستشرفونه فيشاهدون بعين العلم المتقدم احتياجات وطنهم من هذه التكنولوجيا، فيطلقون العنان لإبداعاتهم- ترجمة لشعار الجائزة - ويخرجون بابتكارات تعكس حجم الطموح والتطلعات، وتتماشى مع مُتطلبات يرونها ضروريات مُستقبلية لا غنى عنها. وإننا إذ نُشاهد هذا التنافس الحميد بين المُبدعين والمُبتكرين من أبناء الوطن، نرى الأمل متجسدًا في أفكارهم، ونلمح الإبداع في لمعان عيونهم، فيتعاظم بداخلنا الإيمانُ بأنَّ هذا البلد الأمين ينتظره مُستقبل مُشرق.

لكن في الوقت نفسه تلح علينا تساؤلات متكررة كلما تعرفنا إلى مُبتكر؛ كيف يُمكن الاستفادة من هذا القدر من الطموح لدى شبابنا؟ ما هي الآليات التي تضمن أن نضع بها أبناءنا على الطريق الصحيح وعدم إنجرارهم نحو من يُقدِّم لهم المال المنزوع عنه القيم والمبادئ؟ ما الدور المجتمعي والمؤسسي لاحتضان هؤلاء الشباب بعقولهم الإبداعية المُبتكرة للتقنية والاستفادة منها في خدمة الوطن؟ وأجد بعض الإجابات في ضرورة التفات مؤسسات الدولة لأهمية دعم الابتكار، والتي بالفعل بدأت تستقل مسارًا داعمًا، ولا أبالغ عندما أقول إنَّ جائزة الرؤية لمُبادرات الشباب ولاسيما في فئة الإلكترونيات والروبوت، قد ألهمت عدداً من المؤسسات كي تطلق مُسابقات تستهدف اكتشاف المواهب الواعدة، وهو نهج حميد نأمل أن تتبناه جميع مؤسساتنا.

غير أنَّي أرى أنَّ هذه المسؤولية الكبرى يجب أن تتكاتف فيها المؤسسات العامة والخاصة، فالحكومة مُطالبة بوضع التشريعات المُحفزة والمُشجعة والمُيسرة للابتكارات، وتوسيع دائرة البحث العلمي الساعية نحو ابتكار كل ما من شأنه أن يدعم تقدُّم الحضارة الإنسانية، ورفد جهود التنمية المُستدامة بأدوات وآليات تحقق بها الأهداف المأمولة. المؤسسات الحكومية معنية بصورة أو أخرى باستقدام هذه التقنيات الحديثة وتوظيفها، مثلما فعلت وزارة الصحة، فالأمل يحدونا في أن نقرأ خبرًا خلال الأشهر المُقبلة عن وزارة أو مؤسسة حكومية تطلق خدمة الذكاء الاصطناعي لتقديم خدماتها، أو مؤسسة أخرى وظفت إنترنت الأشياء كي تُسهل على عملائها ومُراجعيها الكثير من الجهد المبذول في تخليص مُعاملاتهم.

أما القطاع الخاص، فأراه ينقسم إلى شقين، أولاً القطاع المصرفي وثانياً القطاع غير المصرفي. والدور المأمول من القطاع المصرفي يتمثل في ضرورة قيام البنوك والنوافذ المصرفية بتقديم مُنتجات مصرفية ذات مُعدلات فائدة منخفضة، لخدمة البحث العلمي، ولتحفير المؤسسات البحثية والباحثين على ابتكار تقنيات جديدة.

أما القطاع غير المصرفي، وأقصد به السواد الأعظم من القطاع الخاص، فعليه مسؤولية اجتماعية تفرض وضع مُخصصات سنوية لصالح البحث العلمي والابتكار، على الأقل كي تستفيد مؤسسات القطاع الخاص منها. ربما تقوم بعض شركات النفط بتلك المُهمة الوطنية النبيلة، لكن أين الشركات والمؤسسات العاملة في القطاعات الضخمة الأخرى؟! فللأسف لا يزال الكثير من المؤسسات غير مُهتمة بهذا الجانب، على اعتبار أنَّه نوع من الرفاهية! إلا أنَّ الواقع أثبت عكس ذلك، وبرهن على أنَّ مخرجات الثورة الصناعية الرابعة تُسهم في خفض تكاليف الإنتاج، وتساعد على تعزيز الجودة ورفع معدلات الإنتاجية، ولا شك أنَّ أي مؤسسة تسعى لهذا الثالوث الناجح.

منتجات الثورة الصناعية الرابعة باتت تمثل الآن المُستقبل المنتظر، ذلك المستقبل الذي كان بالأمس مُصنفًا في فئة "الخيال العلمي" صار حقيقة وواقعاً، بالفعل بات الإنسان غير قادر على العمل بدون التقنية، والعكس صحيح، هذه الآلة التي نود أن يستطيع كل مُبتكر عُماني أن يضع شفراتها ويحولها إلى كائن حي في مؤسساتنا، فيكتمل مجتمع "عمان الرقمية" الذي طالما حلمنا به، وشاهدنا بعضًا من مُخرجاته، في عدد من المؤسسات، لكن لا يكفي أن نشير إلى بعض النماذج الناجحة ونغفل عن عدم لحاق مؤسسات أخرى بهذا الركب الحضاري المُتقدم للغاية، والمستشرف للمُستقبل.

فإذا ما نظرنا إلى رؤية "عمان 2040" نجد أنَّها تضع حزمة من التطلعات المُستقبلية، للعقدين المُقبلين، ولذلك فإنَّ التفكير في المستقبل دون الوضع في الاعتبار ضرورة البناء على أحدث ما وصلت إليه التقنيات، لن يصل بنا إلى ما ننشده، بل سنفقد البوصلة وسنبحر عكس التيار. وخيراً فعل البرنامج الوطني لتعزيز التنويع الاقتصادي عندما أطلق مختبر تقنية المعلومات والاتصالات والثورة الصناعية الرابعة، ليُؤسس لمسارٍ معرفي وتجريبي عماده التفكير العلمي والابتكار وتوظيف التكنولوجيا، وهو مسار يدعم بالتوازي ما تطمح إليه رؤية "عمان 2040" والتي تستهدف صياغة سياسات إستراتيجية، بينما يركز مختبر "تنفيذ" على وضع آليات عمل تضمن تطبيق المشروعات الواعدة في هذا القطاع. ومن المُبشر أنَّه خلال العامين الماضيين شهدت السلطنة تحولاً فيما يتعلق بدعم المشاريع الابتكارية، منها على سبيل المثال لا الحصر صندوق عُمان للتكنولوجيا وما يقوم به من جهود مُقدرة.

إنَّ عُمان تملك من الإمكانات البشرية والمادية ما يؤهلها لوضع قدم راسخة في عالم التقنيات الحديثة، فالأجيال الجديدة نشأت على معارف القرن الواحد والعشرين، وهي المعارف المعززة لمهارات التفكير النقدي والإبداع دون قيود، لكن تحتاج إلى المؤسسات الحاضنة لها، التي توفر التمويل اللازم والتوجيه كذلك، ورغم الأزمات والتحديات الاقتصادية، إلا أنَّه يظل لدى المؤسسات العامة والخاصة القدرة على تمويل مثل هذه المشاريع ودعم الشباب المُبتكر والمبدع، وشراء التقنيات الحديثة وتدريب أبنائنا عليها ليكونوا قادرين على توطين هذه التقنيات.