"بلدان الخليج العربي.. رؤى مستقبلية"

 

عبيدلي العبيدلي

تحت مظلة هذا العنوان عقدت جمعية "المنبر التقدمي" البحرينية منتداها الفكري الخامس الذي توزعت محاوره على جلستين مفصلتين: الأولى منهما كانت الرؤية الاجتماعية/ السياسة، في حين خصصت الثانية لتناول الرؤية الاقتصادية. تحدثت في المحور الأول كل من المحامية العمانية بسمة بنت مبارك، والإعلامي البحريني غسان الشهابي، في حين غطى محاور جلسة الرؤية الاقتصادية، د. محمد الكويتي، ود. محمد الصياد.

لا بد لنا هنا من الإشادة بنجاح جمعية "المنبر التقدمي" رغم الظروف الصعبة التي تواكب القيام بمثل هذه الفعاليات، ليست السياسية منها سوى الأكثر تعقيدا بينها. فمثابرة الجمعية على عقد خمس منتديات دون توقف، بغض النظر عن تأجيل هنا أو تأخير هناك، تفرضه ظروف مستجدة، ومهام طارئة، هو في حد ذاته إنجاز لا يستهان به. كما ينبغي التنويه إلى مشاركة أجيال ثلاثة كانت الفروقات بين أعمارها واضحة، وأكثر منها وضوحا الفروقات التي كشفت، بما لا يدعو للشك، التجارب المتميزة الخاصة بكل واحد منها، والتي انعكست بشكل جلي في منهجية المعالجة، والتعبيرات المستخدمة في توصيل تلك المعالجة للمشاركين.

فقد كان هناك من يمثل جيل العمل السياسي الذي سبق استقلالات بلدان الخليج، بكل ما حملته تجربة هذا الجيل، من اضطرار للجوء إلى العمل السياسي السري، لكنّه كان مرافقا لحالة من الانفتاح الواسع، والاحتكاك المباشر بالحركة السياسية العربية بأقوى مكونيها حضورًا في تلك الفترة الخصبة من تاريخ العمل السياسي العربي، وهما المنتميان للفكر الأممي، والفكر القومي، بمشاربهما المختلفة والمتصادمة أحيانا. نقل هذا الجيل في أوراقه ومداخلاته تلك التجربة الغنية التي أفرزتها تلك المرحلة، لكنّه كان أسيرها بكل ما تحمله كلمة الأسر من استخدام لمفردات، واستقاء لمعلومات، ومنهجا للمعالجات، دون أن ينتقص ذلك من مادة مداخلاته، ومنهجية معالجاته، التي عبّرت بصدق وشفافية عن تجربة ذلك الجيل.

ثم كانت هناك اجتهادات الجيل اللاحق للجيل الأول، وهو الذي فتح عينيه السياسيتين، على مرحلة الفورة النفطية اقتصاديا، استقلالات البلدان الخليجية سياسيا. وتدفق اليد العاملة الوافدة بمكوناتها الدولية والعربية اجتماعيا. توقفت مداخلات هذا الجيل عند التحولات الاجتماعية والسياسية التي أفرزتها  ما عرف بطفرة الأسعار النفطية، دون أن يعرج على الأحداث الكبرى التي عرفتها المنطقة العربية، وفي القلب منها البلدان الخليجية، خلال تلك المرحلة، وفي المقدمة منها "هزيمة حزيران 1967"، والتي لم تكن تأثيراتها على مسيرة التطور الاجتماعي/السياسي الخليجي بأقل من تلك التي أحدثتها الطفرة في الأسعار النفطية.

الجيل الثالث الذي تفتحت عيناه على انطلاقة الإسلام السياسي في المنطقة العربية عموما، والخليجية منها على وجه الخصوص. والمعاناة التي عاشتها الحركة السياسية، وخاصة جسمها الأساسي المنتمي للفكرين القومي والأممي، من ذلك البروز غير المتوقع الذي اجتاح الفضاء السياسي العربي منذ منتصف الثمانينيات من القرن العشرين، وبلغ ذروته في مطلع هذا القرن. حملت مداخلات هذا الجيل سمتين متكاملتين، واضحتي المعالم: الأولى منهما تمرده على التشظي الطائفي/الفئوي الذي بات يفتك بالمجتمع الخليجي، والذي يبدو من وجهة نظر هذا الجيل أنّ هناك استسلاما له، ومحاولات التعافي منه باهتة، وغير ملموسة. هذا من جانب، ومن جانب آخر حاجة هذا الجيل، ومن ثمّ اعتماده بدرجة كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي وقنواته في مد الجسور بين فئات المجتمع المختلفة، ودورها في تكوين قاسم مشترك، بما في ذلك تجسير الفجوة بين الأجيال، ورأب الصدع بين الفئات المجتمعية المختلفة.

تستوقف المشارك في ذلك المنتدى، الإشارات المكثفة التي وردت في كلمة اللجنة المنظمة، دون التقليل من أهميّة ما ورد في الأوراق الأخرى المقدمة من قبل الباحثين المشاركين في المنتدى، والتي تلقي الكثير من الضوء على طبيعة المنتدى وتوجهاته، حيث جاء فيها "التحديات والاستحقاقات التي تواجه بلدان الخليج العربي متشابهة، لا بل واحدة، في عالم اليوم المتغير، والذي ينظر إلى هذه المنطقة بصفتها واحدة، من الجوانب الجغرافية والسياسية والاقتصادية، وترسم معالم دول العالم وتكتلاته الكبرى سياستها تجاه بلداننا على هذه القاعدة.. وكان هذا الخليج خلال العقود الماضية في مهب عواصف كبرى وساحة تدخلات وحروب ألحقت من الأضرار الشيء الكثير.

ما يقلق هو أنّ حجم استجابتنا لهذه التحديات ما زال محدودا وغير كافٍ، رغم أنّ التطورات المحيطة تفرض هذا الأمر فرضا. وبإمكان دول الخليج أن تستفيد، فتؤمِّن لنفسها مسارا متدرجا سلسًا من الإصلاح السياسي يجنبها الهزّات العاصفة من خلال خطوات مدروسة".

بقيت ملاحظة لابد أن نسوقها هنا بشأن محتوى الأوراق وطبيعة المداخلات بشكل مقتضب.

على المستوى الاجتماعي/ السياسي حصرت أوراق المنتدى معالجاتها، ولم تتمرد على ذلك مداخلات المشاركين، نفسها في الدائرة التقليدية، سواء من ناحية التشخيص، أو على مستوى المعالجة. فعلى المستوى الاجتماعي، لم يرد ذكر، أو حتى لم يجر التوقف عند ظاهرة التكون الاجتماعي لمجتمع أممي باتت تؤسس له ثورة الاتصالات والمعلومات التي تجتاح العالم، وبلدان الخليج ليست بعيدة عنها، بل في القلب منها. هذه الثورة، بوسائلها التقنية المتطورة، وقنوات تواصلها المعقدة بات تؤسس، وبأقدام راسخة يصعب زعزعتها، لمجتمع أممي، يتجاوز التكوينات المحلية أو الإقليمية. هذا التحول الاجتماعي، لم يعد حالة طارئة، بل بات ظاهرة مقدر لها الاستمرار، وفرضت نفسها، فلفتت أنظار الباحثين ومراكز البحث العلمي، فبتنا نسمع ونقرأ أبحاثا عن "المجتمعات التخيلية"، و"الجرائم الإلكترونية"، و"التشوّهات المجتمعية السيبرانية"، وجميعها أصبحت تتضافر تأثيراتها كي تؤسس لـ "علم اجتماع" "علوم سياسية" من طُرز مختلفة عن ذلك الذي عهدناه.

الأمر نفسه ينطبق على الشق الاقتصادي، حيث بدأ يعلو الحديث عن اقتصاديات جديدة غير مسبوقة، فبتنا نرى عناوين، يقف وراءها باحثون اقتصاديون يعالجون قضايا ومشاكل "الاقتصاد المعرفي"، وذلك الاقتصاد المنبثق من رحم "الاقتصاد التشبيكي"، دون إغفال "اقتصاد الابتكار".

تلخص كل تلك التحولات، التي نحن في أمس الحاجة إلى التوقف عند تأثيراتها على مجتمعنا العربي، ما أصبح يطلق عليه "الثورة الصناعية الرابعة"، التي ربما تكون عنوان "المنتدى الفكري السادس"، الذي نتطلع نحو انعقاده، ليس من الناحية التقنية وإنّما، وهو الموضوع الأهم من الزوايا: السياسية والاجتماعية، تسبقهما المسألة الاقتصادية.