عبيدلي العبيدلي
لم يكن انفجار الأوضاع في الجزائر مفاجئًا، فقد كانت هناك توقعات باحتمال وقوع ذلك، ورغم تلك التوقعات، فقد اختلفت التحليلات بشأن من هي القوى التي قادت إلى ذلك الانفجار، والأسباب الحقيقية التي تقف وراءه، وقادت إليه، وما هو مصيره، بعد أن انطلق لمجرد إعلان بوتفليقة عن الترشح لولاية خامسة.
البعض، كما جرت العادة، سارع إلى اتهام قوى أجنبية، إن لم تكن مسؤولة على نحو مُباشر، فإنّ أصابعها، كما ذهب إلى ذلك البعض، ليست مخفية، ومن ثم فأي تغيير يمكن أن يقود له ذلك الحراك الشعبي، ستكون نهايته وضع الجزائر على طبق من ذهب على طاولة تلك القوى الطامعة في ثروات البلاد، وفي مُقدمتها النفط والغاز الطبيعي.
أطراف أخرى أشارت بأصابع الاتهام نحو القيادات العُليا في الجيش التي بيدها مقادير الحكم، منذ أن ارتقى الرئيس بوتفليقة سدة الحكم، وأنها، طيلة الفترة المنصرمة، كانت متفقة أن تبقى في الكواليس متسترة وراء الرئيس بوتفليقة.
مصادر أخرى، قالت بأن الأزمات التي يُعاني منها المجتمع الجزائري، منذ فترة ليست بالوجيزة، أدت إلى تراكمات قادت إلى ذلك الانفجار الذي أخذ طابعا سلميًا، لكنه جماهيريا في الوقت ذاته. منطق الواقع يقول إن انطلاق الهبة الجماهيرية، وعلى النحو الذي بدت عليه، والطريق القصير زمنياً الذي سارت عليه، أن ما جرى، هو محصلة تلك العوامل جميعها. فمما لاشك فيه أن هناك أزمات اقتصادية واجتماعية تعصف بذلك الاقتصاد، وما هو مؤكد أنَّ حالة الرئيس بوتفليقة وصلت إلى مرحلة لم تعد تسمح باستمرار ذلك التحالف الذي يتخفى وراءها، على النحو الذي شاهدناه لما يزيد على عشرين عامًا. كما أنه من غير المستبعد أن تكون هناك أصابع أجنبية تلعب في خفاء الفضاء السياسي الجزائري المدلهم بالسحب السوداء.
على كل حال ما قدر له كان، وانطلقت الجماهير الجزائرية في مسيرات مليونية، تحت شعار واحد هو " لا للعهدة الخامسة".
ولكي تكتمل الصورة، لابد من التوقف عند بعض الأسباب التي تجعل من الجزائر حالة عربية فريدة، تستطيع أن تفسر الأسباب التي جعلت من الحراك الجزائري الأخير مختلفًا عن تلك الحراكات التي عصفت ببلدان عربية أخرى جراء ما عرف باسم "الربيع العربي"، ويحلو للبعض أن يصفه بـ "الخريف العربي"، بعد النتائج التي آل إليها ذلك الحراك في العديد من البلدان العربية، البعض منها مثل ليبيا محاذيا جغرافيا للجزائر.
تتميز الجزائر عن شقيقاتها العربيات، وهي تعيش ذلك الحراك الشعبي، بظروف خاصة، يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
أنها، أي الجزائر، بخلاف دول عربية أخرى، لم تنل استقلالها بانقلاب عسكري، قادته حفنة من الضباط، اعتلت صدر مصفحة عسكرية، وحاولت، بشكل كارتوني، التشبه بثورة يوليو 1952 الناصرية، وتوهمت أنَّ في وسعها "العيش في جلباب مشروعاتها". ومن ثم فمن الطبيعي أن تكون انطلاقة الشعب مُختلفة، وردة فعل القوات المسلحة مختلفة أيضًا. وهذا ما يفسر تحاشي الطرفين: المتظاهرون والسلطة أي صدام يقود إلى إسالة دماء.
أن الجزائر عرفت، قبل سنوات عشر سنوات دموية، عرفت لدى الجزائريين بـ "العشرية الدموية"، وكانت الصدامات فيها مُتفرقة، لكنها مغرقة في دمويتها. ومن ثم فآخر ما يتمناه الشعب الجزائري، إنزلاق مسيراته السلمية نحو شوارع العنف والدموية.
إن الجهة الممسكة بزمام الأمور في الدولة، نجحت خلال العشرين سنة من حكم بوتفليقة، أن تنظم العلاقات فيما بينها، وتقتسم النفوذ بين صفوف أفرادها، بما لا يسمح، وربما لا يحبذ، كما يقول المثل "تحريك المياه من تحت الجسر"، ومن ثم فربما لن تسمح بوصول الأمور إلى مواجهات مسلحة. ولعل في مبادرة بوتفليقة بالانسحاب مؤشرات كثيرة على أن تلك الجهة بحاجة إلى بعض الوقت من أجل إعادة ترتيب أوضاعها، كي يتسنى لها العودة من جديد من أجل الإمساك بزمام الأمور، قبل أن تفلت من بين يديها.
ولعل هذا التوصيف يقودنا، وعلى نحو مُتسارع نحو التساؤل الطبيعي المنطلق من الحرص على مستقبل الجزائر، وهو ما الذي ينتظر الجزائر أو بالأحرى يتربص بها ؟
هنا تجدر الإشارة إلى أنَّ من أطلقوا الدعوة للتظاهر، لم يكشفوا عن برنامج عمل، أو مشروع سياسي متكامل، واكتفوا بشعار سلبي يقول "لا للعهدة الخامسة". ومن يتابع التغطيات الإعلامية التي رافقت تلك المسيرات المليونية، يلمس غياب ذلك البرنامج من أقوال العديد ممن تناولوا الحدث الجزائري.
هنا يتوقع المراقبون أن ما ينتظر الجزائر هو واحد من سيناريوهين رئيسين لا ثالث لهما:
أن يمتص انسحاب بوتفليقة من سباق الترشح لولاية خامسة النقمة الشعبية، وينجح ذلك في شق الشارع الجزائري بين مقتنع بأنَّ ما كان وراء المسيرات قد تحقق، ومن ثم فليس من المنطق الاستمرار فيها، وبين من يرى أنها تعطي متنفسًا لمن هم في السلطة كي يعيدوا ترتيب أوراقهم من داخل بيتهم، وتعود الأمور إلى ما كانت عليه، مع بعض التغييرات التجميلية، التي لن تتجاوز استبدال وزير بآخر، أو نقل وزير من وزارة إلى أخرى، دون المساس بصلب صلاحيات القوة الحاكمة، أو المساس بمصالحها التي بنتها عبر سنوات من وجودها في قمة السلطة. هذا يؤدي إلى زرع الخلافات في الجسد الرئيس للحركة التي اندلعت رافضة ترشح بوتفليقة لعهدة خامسة، ومن ثم يُمكن أن ينقل صراعها ضد السلطة، إلى تناقضات فيما بينها، يقود إلى إجهاضها في هذه المرحلة المُبكرة من عمرها، فتعود الأمور في الجزائر إلى ما كانت عليه من قبل، مع تغييرات تجميلية مصاحبة.
أن ينتقل الخلاف إلى من هم في السلطة اليوم، فيختلفوا فيما بينهم على طريقة تقسيم النفوذ، ومن ثم الحصص، ويتطور ذلك الخلاف، فيتجاوز الكواليس الخلفية كي يصل إلى الشارع الجزائري، الذي سيكون حينها متهيئاً للاستجابة إلى أية مناشدة للعودة إلى الاحتجاج، وحينها تدخل الجزائر، كما شهدنا ذلك في دول عربية أخرى خلال السنوات الثمانية الماضية، في دوامة عنف مُتصاعد، من غير المستبعد أن يبلغ حالة من العبثية التي ليس هناك من يريدها لها.
هذا يجعلنا نضع أيدينا على قلوبنا خوفاً من مصير مجهول يتربص بحركة الشارع الجزائري، التي يمكن أن تقودها قوى نحو أهداف مختلفة تمامًا عن تلك التي أشعلت فتيل ذلك الحراك الشعبي؟