الحياة أقصر من فتيلة قنديل


 علي السباعي | العراق
كَتَـــــبَ شـاعرٌ سـومريٌ مجهولٌ علـى لوح ٍعُمْرُهُ أكثرَ من ستةِ آلافِ سنة ، وُجِدَ في أور :- " حياتُنا أقصرُ من فتيلةِ قنديلِ المعبد لِنُعانقَ جديلةَ الشمس ِ الطويلةَ  / وأحلامَ الناس ِ الضائعة َ / ونُسافرُ بها إلى الأبدِ "
لاشيءَ في الدنيا بدون ِ قولٍ ، ولاشيءَ يعادلُ الكلمة َ لأَّنها الأصلُ ، ولاشيءَ يُعادلُ جمالَها حين تكونُ إشارّية ً، موحية ً، متخفية ً، وراءَ كُوَم ٍ من القصص ِ والحكاياتِ وما خُبِّئَ بين السطورِ ، حتى لا أهرمُ تحت وقع ِ أقدام ٍ مُسنَّنةٍ، مستاءةٍ . أيقظتني دفعة ً واحدة ً على سوادِ يومي :- الكلمة ُ الصادقة .
ففزعتُ ، ففزعتُ ، ففزعتُ من قسوةِ السماءِ الرماديةِ الشاسعةِ في حياتِنا ، فتركتُ الضوء ، ضوءها بأنامِلِهِ الناحلةِ البيض يُضيءُ عُتمتي الداخلية َ بحزن ٍساكن ٍ كنتُ يقظاً أكتُبُ عن وَجَعي ، كتبتُ أَوّلَ قِصّةٍ في حياتي عن وجعِنا العراقيُ ، منذ ُ كتابتِها وقفتُ صغيراً أتطلّعُ بعيون ٍ مبهورةٍ في أضواءِ هذا الكون ِ وظلماتهِ .. أيضاً كنتُ مشدوداً إلى مشاعرَ وتيّاراتٍ مُختلفةٍ حوليَ تتضاربُ وتتفاعلُ ، وأنا أكادُ أرى . كنتُ أرى لأنني كنتُ أقفُ على تُراثٍ قديمٍ أمُدُّ يَدي إلى نارِ المستقبل ِ، وأكادُ  اسقُطَ وأنا في مكاني أرى هذا هو : علي السباعي . وَقَفَ منذ ُ أن كَتَبَ أوّلَ قِصّةٍ قصيرةٍ لهُ ، ومازالَ يُلِحُّ على الكلمةِ مثلُ طارقَ النُحاس ِ يطرقُ كَلَمَتَهُ فتطرقُ أصابعهُ في الوقتِ نفسِهِ ويحاول أن يكونَ لصوتِهِ انعكاسٌ وان يكونَ لأيقاعاتِهِ تأَثيرٌ وصدىً . نحنُ شعبُ مغلوبٌ على أمرِهِ ، شعبٌ منخورٌ ، نَخَرَتْهُ عصابة ٌ ، شعبٌ جعلوه بلا ... ذاتٍ ، هذا واقعُنا ، شعبٌ متهرّئٌ ، كيانُهُ متَهرّئٌ ، كُلُّهُ متَهرّئٌ ، شعبٌ مبنيٌ على السلّبِ ، هذا تاريخهُ أَلَيَسَ هذا بكَافٍ بأن يجعلَنا نتعذّبُ ، فنكتبُ . كتبتُ ، فكتبتُ ، فنُكبتُ ، فكتبتُ ، لأنَّ النوافذ َ كانتْ كلُّها مغلقة ً ، والأسلاكُ المُلتهمةُ قد قَضَمَت مّنا الكثير ، ساعَتَها تعلّمتُ كيفَ أقاومُها ، فكان أن قاومتَها بالكتابةِ ، ولعلَّ هذا ما كنتُ أنا أحملهُ درعاً لي : الكتابة ُ ، الكتابة ُ ذلك الترياقُ الذي لم يستطّع أن يقتلني بل زاد من صلابةِ عودي .
كثيرةٌ هي الحوادث التي جَرَتْ وتجري لمجتمِعنا ، وهناك شخصياتٌ تعيشُ على هامش ِ الحياةِ ، وتمتلكُ خصوصية ً في أفعالِها تبدو شاّذة ًفي عرفِ الأسوياءِ فكتبتُها لأُنصفَها . في داخلي ألمٌ ، ألمٌ . لكّنه كبيرٌ ، كبيرٌ حتى إنني لا اعرفُ كيف أكتبُه ؟ الكتابة ُ تمثّل محورَ حياتي كلَّها وجَوهرَها ، وأعتقدُ أنَّ الكاتبَ هو : حاملُ مصباح ِ ديوجينيس الذي يُنيرُ به عُتمة َ المجتمع ِ وإضاءة ُ وجوهِ الهامشيّين من أبناءِ هذا الشعبِ ، فكانتْ قصصي دعوة ً للتعاطفِ مع المظلومين ومنَحِهَم حرارة َ المشاركةِ في المأساةِ . الآن سأفكُّ عقالَ هذه الروح  ، روح َ علي السباعي وأتوكّل ، لأنّ هذهِ الجذوة َ أنفقتْ نارَها معي متأجّجة ً ولم تخفُتْ ، لذا سأكتُبُ عن : الأعمق ِ والأفدح ِ في نفسي .
في البدءِ تساءلتُ : إن كنتُ مبدعاً حقاً أم هو مجرّد وهمٍ ؟ تُرى كيفَ سأعيدُ نفسي إلى الحياةِ لو لمْ أكنْ كاتباً ؟ فكان بدون ِ أذن ٍ منّي يترَّبعُ المنسيّون من أبناءِ شعبي المظلومِ على هياكل ِ كتاباتي ، ويدخلونَ قصصي بلا وَجَل وكأنهم يمارسون ما اعتادوه في أيامِهِم وساعاتِهم المنسيّةِ كما هم . لكن! كنتُ بكلِّ موَّدةٍ أقتنصُ انشغالاتِهِم بحياتِهم ، وتأملَهُم لحالِهِم . لكَنَ ! تمعُّني بومضاتِ حياتِهم طالَبتْني بالإشفاق ِ عليهمِ مِنهُم ، لأن هؤلاء من مَنَحني فرصة َ احتمال ِ الحياة ، طوبى لهم ، لقد تركوني أتلّذذ ُ بالكتابةِ عن آهاتِهم ، وتدوين ِ مراراتِهم ، وصغتُ هواجسُهم بحزن ٍ شفيف . لقد كنتُ منهم ، فلهذا لا يؤاخذونني على ما اقترفتُه من محبّةٍ وألفةٍ تجاهَ عصْفِ الحياة ِ بهم ، لقد تجشموا عناءَ الامتثال ِ لقلمي وأنا - الآنَ - مكبلٌ بمحبتهم . بفرحةٍ غامرةٍ كتبتُ قصّصي كلَّها ، إنني انتفضَتُ انتصاراً لكرامتي الجريحةِ ولكبريائي المهدورةِ ، فلقد حددَّتُ الخَلاصَ خلاصيَ الفرديَّ بالكتابة . أن الأدبَ يُعيننا على أن نكونَ بشراً صالحين ، وعلى الاحتفاظِ بإنسانيتِنا ، وقلتُ في نفسي : عَلَيَّ بالمقاومةِ والكتابةِ للذاتِ بدون ِ خوفٍ ، وهكذا كتبتُ قصّصي كلَّها التي صَوَّرتُ فيها ما كنتُ اعتقده . أدب المقاومةِ حفاظاً على الحياةِ . أدبٌ غير نفعي ، منقذ ٌ روحيٌ للذات ، ولتفادي الاختناق ِ وسطَ المجتمع ِ .
كلُّ شيء يبدأ بمأساةٍ ، هكذا بدأتْ حياتي " قصصي " بمأساةٍ ، بمأساةٍ لم تَتَوقَّفْ ولم تنتهِ هذه المأساة ُ الحياة ُ. كتبتُ عن أحداثٍ سودٍ عشناها ، كتاباتٌ مُقِلقَة ٌ ، قَلقة ٌ، تُعبّرُ عن الحزن ِ. حُزنِنا ،حزنِنا العراقيِّ ، كتبتُ عن الطريقةِ التي أُحسُّ بها الحياة ،  حياتُنا  بتناقُضاتِها المستّمرة . كتبتُ عن : عالم ٍكريهٍ ، قذرٍ، ومرعبٍ قد عشناه .
أننا نفهمُ كلامَ اللغة التي نتكلّمُ بها . لكن ! كيف نبتكرُ كلاماً للغةِ القلبِ العميقة ؟
كلامُ القلبِ كونهُ تجسيداً لمأساةِ الفردِ الذي يقفُ وحيداً في وجهِ التيار . فكانتْ تجربة ُ الكتابةِ لا تصلحُ لشيءٍ وأنّها لم تكنْ أبداً طريقة ً للعيش ِ، تلكَ هي تجربتي ولم يَدُرْ ببالي أنّها تقّدمُ أجوبة ً عن أسئلةِ الحياةِ الكبيرةِ . لكنَّ هذه القصص أثبتُّ بها لنفسي أنني موجودٌ . عندما بدأتُ أكبر. بدأتُ أفكًرُ بألاّ تكونَ لي وظيفة ٌرسمية ٌمعيَّنة ٌ، كنت أريدُ الأستمرارَ في القراءةِ  وأحلام ِ اليقظةِ . يقظتي عندما تقرأون قصصي لن تجدوا في هذه النصوص ِ أجوبة ً كبيرة ً، بل ستجدوَنَ حياة ً كبيرة ً وأسئلة ًكبرى . أسئلة ً بلا ............. أجوبةٍ .
كان ثباتي كبيراً على محاربةِ العَماءِ و السكونيةِ  والموتِ بالكتابةِ ، الكتابةِ الواعيةِ ، والكتابةِ الواعيةِ دفعَتْ بقصصي التي أكتبها إلى النضج ِ الأبداعي .
قلت لنفسي :- علي السباعي . حافظْ على توازنِكَ ، وأحذرْ من أن تكونَ الكتابة ُ هيَ الشيءُ الوحيدُ في حياتِك ، فكانتْ هيَ الشيءَ الوحيدَ في حياتي .
تتوالى الأيامُ  عَلينا ، أيامُ هبل و سنينهُ ، يومَ َكانَ الزمنُ زمنَ هُبَلَ ولعبِتِه ، لنجدَ أنفُسَنا رافضين لكلِّ شيءٍ رغبة ً منا أنَّ ذلكَ سيخلصنا في النهايةِ لنرى النورَ أخيراً في حياتنا . تَحَطَمَ هُبل ، وصرنا نرى :- الدمَ أيضا ً بدلَ أن نرى النورَ !!!
ترى هل نستطيعُ أن نرى النورَ في حياتِنا ثانية ً ؟ كتبتُ القصّة َ القصّيرة َ لأُثبت لنفسي أنَّ الحبَّ في العالمِ مازالَ ميّتاً .
أن قصصّي تُعَتَبرُ حقيقة ً موجعة ًمُنشّدة ً باتجاهِ الهمومِ والمكابدات لأوضحَ للناس ِ يوماً ما . بأنني سأكوَنُ حرّاً . حرّاً بها . حرّاً بقصصّي إذا بي خلالَ ما مرَّ من سنين ٍ عجافٍ إنني كنتُ أتعذّبُ بالكلماتِ والقصص ، وبالزمن ِ ونفسي ، وكنتُ أسألُ نفسي دائماً وأنا أكتبُ القصة :- ماذا أردتُ القولَ من خلال ِ هذه القصّةِ ؟ وبقيَ هذا السؤالُ لي سؤالاً صادماً وفاضحاً بدرجةٍ كبيرةٍ . كنتُ أعرفُ لماذا أكتبُ ولِمَنْ كتبتُ قصصي تلكَ ؟ أَمامَ هذا السؤال ترتعدُ فرائصي فَرِقْاً ، أنّهُ سؤالٌ جبّارٌ . جبّارٌ . رغم أنّهُ سؤالٌ في الكتابة ُ ؟ فكانتْ الكتابة ُ ببساطةٍ :- هي تجربة ٌ ذاتّية ٌ لاكتشافِ العالم .
فإذا لم تكنْ هنالك من غايةٍ للكتابةِ لكانتْ عملية ُ كتابتها مضيعة ً للوقتِ ليسَ إلاّ . أذكرُ جيّداً وأنا أكتبُ كنتُ أبكي ، فكانَ بكائِي ، بكاءُ قاصِّ ، كان بُكاءً إنسانياً ، أنه انفعالٌ أنسانيُّ ، إنهُ امتدادٌ لأحزان ٍ عراقيةٍ لا تعرفُ الصمتَ ، فبكائي كان نوعاً من المقاومةِ للحياةِ و للعيش ِ بكرامةٍ ، ومن الإمساكِ بآخِرِ أمنيةٍ تفاوتَ الزمن في تجسيدِها وضياعِها أيامَ يدِ هُبَل الحديدية .
سأستمرَّ معانقاً الكلماتِ بشكل ٍ جنونيٍّ جنوبيٍّ ، فالكلماتُ لازالَتْ ملاذيَ الوحيدَ ، وليسَ بوسْعي التراجعُ ، التراجعُ عَنْ مشروعيَ الأبداعي ، وكيفَ أتراجعُ وقد فتحَتْ لي الكلماتُ أبوابَ أسرارِها كلِّها ؟!!!
لقد منحتني الكلمات عالمها ومنحتني أيضا :- نبوءتها . نبوءتها النابعة من شغافِ القلب . الكلمة ُ هي :- حياتي ، وقضّيتي ، وخلاصي ، ولأثِرِهِا منحتني الكلمةُ سّـرَ اليقظةِ ، اليقظةِ الواعيةِ ، ومكَّنتني الكلمة ُ من فتح ِ محَّارةِ الأسرارِ ، والكتابة ُ هي :- التواصلُ وكـانَ التواصـلُ بالنسبــةِ لـ( علــي الســباعــي ) ولادة ً ، وكانت الــولادة ُ نهوضا ً، ثم فَرَحاً .
 

 

تعليق عبر الفيس بوك