في الزحام

 

 

فاطمة الحارثية

 

نُصادف ثقافات مختلفة على جسر حيواتنا منها ثقافات متحجرة لمفاهيم محددة ومنها ثقافات بلا هوية تتمحور حول الأنا وفكرة البقاء فقط وأخرى مرنة منفتحة بكل وعي وإدراك، وقد يؤيدني البعض أن هذه الأخيرة نادرة.

سابقاً كنت أضع لمفهوم الصداقة أهمية عظمى تكاد توازي أهمية البقاء والوجود ذاته ومع تراكم الخبرات وتعدد الوجوه التي مرَّت عليَّ وجدت بعد حين أنَّ الصور الجميلة التي رسمناها في طفولتنا هي غذاء مهم من أجل إبقاء الأمل في الغد ودعم مفيد جدا لتمويه عقولنا بأنَّ الجميل موجود وإن لم يكن بين أيدينا. نعم إنه وهم جميل ندمغ به عقولنا رغم علمنا بحقيقة الأمور، هذا تكوين واقع فالمدينة الفاضلة لم تكن إلا في فكر أرسطو واعتقد بها بعض الفلاسفة والحالمون. لن أخوض معكم في رحلة اليوم سمفونية الخير والشر رغم أنها مناسبة في كل عصر وزمان ومكان.

أصبحت بكل تلقائية أبحث لكل حضور ووجه جديد في حياتي عن هدفه المخفي حتى صرت لا انتظر المقدمات وأبادر بـ (هات أو هاتي من الآخر). ما يُثير السخرية لدي في هذا عندما يأتي أحدهم ويقول لي إني إنسانة سلبية وعليّ قراءة كتاب النفس مثل كتاب (السر) وغيره من أجل أن أكون أكثر تفاؤلا وإيجابية وإقبالا على الحياة، إذا ما هي النفس الإيجابية والسلبية حضرت الأستاذ المتفائل أو مرتدي القناع؟ عذرا لن أخدع نفسي لأن علاقتي مع ذاتي ليست بين حدود السلبية والإيجابية، فأنا أعيش بسلام وتصالح دائم مع الذات والأنا، أحاورها كما تحاورني أنت أيها المتفائل الإيجابي ولا أفرض عليها شيئًا، فذاتي طبيعية تعلم أن ثمة حزن وفرح وخيبات أمل وثقة و و و ومع ذلك لا أطمس أياً من هذه الانفعالات وأعطيها حقها الذي يرضيها فإن رغبت ذاتي بالبكاء أسمح لها وإن رغبت بالضحك أسمح لها وإن رغبت بالرفض أقبل لها وإن رغبت بالقبول لا أمنعها ومع ذلك أناقشها وأسألها (لماذا) ومبدأ يجب ولا يجب، الصواب والخطأ، الاهتمام بكلام الناس واعتقادهم مرفوض تماماً كعذر أو سبب مع ذاتي، وليكن ما يكون فالآخر يبقى إنسان يحمل في جوفه الكثير ومزيجا متفاعلا من العواطف والشعور وله أن ويبرز ويفعل ما يبتغيه بإرادته المطلقة فيهمش ويعظم متى شاء وأين شاء وكيفما شاء.

إذاً تقبل الذات بكل خيره وشره لابد أن يكون قبل تقبل الآخر (الصديق أو الرفيق)، هو لا يحب الطعام البارد إذًا ليكون ما الخطأ في ذلك ولماذا عليّ أن أفرض عليه الطعام الساخن الذي أحبه أنا ولماذا عليّ أن أفرض عليه أو عليها أفكاري ولماذا عليَّ أن أفرض معتقداتي وشروطي على من يُرافقني أو على معرفة بي؟ هو يحب الرقص ويحب متع الحياة وقد لا يُؤمن بديني ويرى سلوكي تخلفاً وقيداً فلماذا أنبذه وأتبنى التعصب الفكري والتحجر في الأحكام، ولماذا أحكم أساسا على الآخر.

نقول كثيرا (تقبلني مثلما أنا) هذا لا يعني أنه عليّ ذلك، فلدي الخيار أيضًا أن أتقبل من أريد بالكيفية التي هو أو هي عليها وقد أقبل بأحدهم شابه بآخر قمت برفضه مسبقًا، بادرتني إحداهن بالسؤال: لماذا قبلتِ هذا ورفضت ذاك رغم أنهما في ذات التيه؟ في الجوهر هناك سببان أساسيان أحدهما أستطيع القول إن عربدة من قبلته لم تتجاوز حدود الآخرين ولم تأذني أو تأذي أحدًا والسبب الثاني لم يكن هناك فرض أو شرط عليّ أن أجاري أو آتي بالفعل ذاته لتستمر العلاقة فعلى سبيل المثال أقول ما أوده في حوارنا وتفعل الشيء ذاته دون أن تهين فكري أو أتعدى على معتقدها ودون أن تردد على مسمعي أفعلي ولا تفعلي أي دون محاولة فرض التغير. العلاقات هي في واقعها معقدة ولا تحتاج منا أن نزيد من تعقيداتها، ويبقى في الأخير ما نرغبه وما نعتقد أنه يناسبنا مهما كان مناقضا لنا ما دام الاحترام قائم.

 

رسالة،

الأضداد قد تتلاقى إن سمحت للآخر بذلك وأعطت مساحة كافية وإن كانت في صمت. لا تعضني أمام الناس مدثرًا نفسك بأسمال البراءة وفي ركنك الخفي لست إلا عربيدًا صاخباً. الغاية والمصلحة لا تبرر التلاعب بمشاعر الآخرين.

 

تعليق عبر الفيس بوك