جحيم الذات المستعرة.. قراءة في لوحة الفنان عبد الصاحب جاسم

...
...
...


جمال قيسي | بغداد
في أحد المعارض الفنية لعاصمة الفن باريس استحوذت لوحة  الرسام الإنكليزي كونستابل  على الاهتمام البالغ  للفنان ادوارد مانيه، والذي رفضت لوحاته لأكثر من مرة  للعرض  من قبل اللجان الفنية؛ لكن ما جذب  وأبهر  مانيه  التكنيك الذي استخدمه كونستابل  بإضفاء الحركة على نهر التايمز في لوحته، وكان مانيه مهمومًا بكسر خطاب  اللوحة المتسمر، بحكم  تأثيرات صديقه الشاعر بودلير، رمز الحداثة، وأحد  روادها، والشاعر والناقد الألمع في عصره؛ بل السابق له  وهو الأب الشرعي  لقصيدة النثر، كانت  "أزهار الشر"   مجموعته الشعرية مثار الجدل الذي  أضفى  بظلاله على مسيرة الشعر.
من هنا بدأت قصة الفن الحديث، فكرة وحافز ورؤية، كانت تأثيرات بودلير على مانيه تمثل الفكرة ومشاهدته لوحة كونستابل  الحافز، لينطلق بعدها برؤيته التي غيرت مسار الفن التشكيلي، لم يبق بعدها الفن أسير الصالونات، أو نمطًا برجوازيًا مترفع عن الإنسان العادي والكادح؛ لأنه كان  فنا بلا إنسانية، ولا زمن، تحرر الفن على يد  مانيه الانطباعيين، ليتحول إلى خطاب معني بالإنسان وهمومه، والحقيقة لم يكن هذا التغيير الجذري على حساب القيمة الجمالية؛ أي بمعنى أنه لم ينفها، بل عمل على تغيير مفهومها وعمقها.
تأخذاني قدماي، أقول قدماي، لأن  نادرًا ما اتفقتا على درب واحد، تنزع اليمنى بإصرار لاتجاه لاخيار لي فيه، وكأن وعيًّا  تبلور فيها لدرجة،  أتصور أن دماغي، يتوزع بين أصابعها، نوع من الهيمنة  الظالمة، لتسحب بقية كتلتي أشبه بأسرى  الاشوريين؛ لكن يجب أن  لا أنسى اعتراضات  قدمي اليسرى، لكنها  اعتراضات بلا طائل، تتزامن بإيقاع، بإكراه، لاتمتلك من الأمر شيئا، إنه فارق الوعي، نوع من الهيمنة القدمية، (هيمنة الأقدام، غرامشية مقلوبة) ، والوعي المتضخم تجاه الأرض، أرى أشياء؛ بالتأكيد لم أفلح بها عندما يكون دماغي في رأسي، - ليس  بكسرة الخبز وحدها  يحيا الإنسان؛ بل بالفكرة، قالت اليمنى وهي تحاور اليسرى،- هراء مجرد تبريرات خرقاء أجابت اليسرى، - انظري إلى هذا الكم المبعثر من أعقاب  السجائر، يمكننا أن نستخلص منه أنثربولوجيا الشفاه، وما تحمله من شقاء ومسرة، قالت اليمنى  - فوضى وعشوائية وتخلف ليس إلا!  قالت اليسرى  - ستبقين على غبائك والانقياد الأعمى  يليق بك، قالت اليمنى، - لنمضِ في هذا المشوار العبيط بدون  مناجزة، قالت اليسرى، قررت أن أسحب دماغي إلى رأسي، وتركهما لوظيفتهما، أحيانا المشاركة بالرأي نقمة، وخصوصًا بالطريقة العراقية، لم يحدث أن اتفق رأيان، بالطبع الأمر لا علاقة له بالحق أو الباطل، أو الواقع والوهم، مجرد عنجهية فارغة.
كان هذا المشوار الأثيري، عندما اتخذ الرصيف المحاذي للمتحف العراقي من جهة  (علاوي الحلة)، رواق هادئ يتحدى الفوضى وعادة ينتهي بي المطاف إلى  محل بيع الشاي عند ركن سينما بغداد التي خسرها  (قدري الازرملي) برمية نرد، للشاي هناك مفهوم آخر، أشبه بالنبيذ المعتق النادر، بعدها سأتوجه إليه، إنه غايتي منذ الأمس، بعد ان بعث لي برسالة على الماسنجر  وقال لي: إن لوحتك جاهزة، محله يقع في الدلتا، أشبه بمركز الخصب للمكان، الشارع ينقسم إلى  فرعين بعد أن تتخطى ستين متراً، واجهة محله  تكون رأس المثلث من الأبنية  عند  انفتاح فخذي الشارع، محل بسيط ومتواضع وأنيق  ونظيف، ولكنه لايخفِ عبث الفنانين، إنه عبث الخلق، هاهو ينهض من كرسيه لاستقبالي  كأنه نوتي  يخرج من أعماق المحيط  والذي لا يقوم بمثل هذه المهمة إلا كل عشرات السنين، خجول في كلماته مقتصد الغايات، يبدو أنه ضرب عرض الحائط  لجاجتنا في الأخذ والعطاء اليومي، لا أخفي أني حسدته، من يستطيع أن يجد له واحة بهذا السحر والجمال وسط  هذه الفوضى العبيطة والسمجة هو مارد ساخر منا ومن زماننا، انهمك معي وكأنه  طالب  شغوف  في الوقت الذي أنا بادلته الموقف نفسه، تنقل بأفكاره بانتظام واختزال في قراءاته لعشرات القصائد والروايات، لم يكن حديثنا طويلًا أعطاني  اللوحة مرزومة بالإضافة إلى إعارتي رواية للعم ميلان كونديرا،- إنه يذكرني بك عندما أقرأه، قال لي، شكرته ومضيت وأنا اشبه بالطاووس، (أنا أشبه ميلان كونديرا، ياللروعة)، سأحتفظ بهذه العبارة  وأودع ما تبقى من دماغي إلى القدمين، لا أريد أي مؤثر آخر يشغلني، مع إني لا أأمن  جانبهما، ربما سيودعاني تحت أي مركبة عند عبور الشارع، وهما في إحدى أشواطهما الغبية بالمجادلة، لكن سنعبر الجسر، وتلتهب الذكريات، (سأتخطى، سنتخطى، ستتخطى)، اللعنة الحياة سلسلة من الخسارات الفادحة، لا لا ، لا تكون  ظالمًا، فها أنت. تتأبط هدية، بعد مجموعة من الوقائع اليومية الهزيلة، وصلت غرفتي، وفتحت الرزمة، ووضعت اللوحة بإطارها الأنيق  قبالتي، إنها بالتأكيد تنتمي إلى المدرسة التعبيرية، الألوان الحارة  لـ(الفگر)  توتر عصب العين، شخص يجلس بهطول على مقعد سوريالي، الشخص عبارة عن صهارة بركان، لكنها متماسكة  وغير منفلتة، فيما أخذت آثار المحيط  بالانفجار والتشظي واضحة على شكل هالة تحيط بالشخص، إنها الذات  المستعرة، الأنا الرافضة لمجريات الواقع البراني عنا، أما داخلنا الجواني فقد بلغ درجة  الاتقاد  الصهاري؛ شكرًا صديقي على هذه الهدية الثمينة.
........
هامش:
قدري الازرملي: أشهر مقامر عراقي فقد تركته الكبيرة بلعب القمار.
علاوي الحلة: منطقة وسط بغداد تضج بالحركة.

 

تعليق عبر الفيس بوك