الأوز الطائر

 

جمال النوفلي

 

كنت في الحقيقة كتبت مقالاً أناقش فيه حالنا وحال مركزنا الاقتصادي ومركز بعض الدول الشقيقة في ترتيب الاقتصاد العالمي في ظل تقدم كثير من الدول التي كانت تُصنف في التسعينيات من ضمن الدول الفقيرة فإذا هي اليوم تقفز متجاوزة دولنا لتكون ضمن الدول النامية، بل إنَّ بعضها أصبح من الدول الاقتصادية المُتقدمة في العالم مثل الهند وتركيا وماليزيا.

كنت قد كتبت مقالاً في ذلك استعرض فيه وضعنا الاقتصادي والفكري الذي هو أحد مسببات عدم تحقيق المأمول من الأهداف، إلا أني عدلت عن مقالي ذلك لاعتقادي بأنَّ البكاء لا يُقدم أي فائدة سوى إثارة الحسرة وتعكير مزاج الناس، كما بدا لي أن الحكومة راغبة بصدق في رؤية 2040 ولعل المُستقبل سوف يبتسم لنا أو لأبنائنا، عدلت عن موقفي السلبي وأردت أن أشارك بفكرة إيجابية قد نستنفع منها شيئين فكرة قد قرأتها منذ فترة في أحد البحوث الاقتصادية ونسبت لاقتصادي ياباني يدعى أكاماتسو كانامي عام 1937، تلك الفترة التي كانت اليابان وما زالت تعتبر ضمن الدول المُتقدمة اقتصاديا، والدولة الأقوى بالنسبة للدول الآسيوية المحيطة بها التي كانت تُعاني من الفقر والتخلف، كانت النظرية تسمى بنظرية نموذج السرب الطائر (The Flying Geese Model)، حيث يشبه فيها أكاماتسو الدول الآسيوية بسرب الأوز الطائر، فسرب الأوز دائمًا ما نراه يطير في مجموعة واحدة مُتماسكة ولكنها منظمة ومتعاقبة حسب الإمكانيات فالقائد دائمًا ما يكون في المُقدمة ثم تيليه مجموعة بسيطة من الأوز ثم المجموعة الأكبر وهكذا، وعليها فقد صنف الياباني الدول الآسيوية إلى ثلاث مجموعات:

المجموعة الأولى هي اليابان وحدها وهي من تكون في مُقدمة السرب، ثم المجموعة الثانية وفيها كوريا وتايوان وهونج كونغ وسنغافورة ثم المجموعة الثالثة فيها إندونيسيا وماليزيا وتايلند.

وقد وضعت هذه النظرية أصلاً لأجل مساعدة الدول المتأخرة والنامية للوصول إلى مرحلة التقدم والتطور الاقتصادي وإدخالها في النظام الرأسمالي المُهدد بالنظام الشيوعي في الصين وفيتنام وذلك عن طريق ربط العلاقات الاقتصادية فيما بينها من خلال ثلاثة مستويات اقتصادية حسب وضع الدولة وقدرتها على الإنتاج والتصدير، ويستخدم الياباني عبارة (المستويات) في النظرية وذلك نسبة إلى أن سرب الأوز يطير على مستويات مختلفة حسب الإمكانيات، فهناك مستوى (الاستيراد) وهو مستوى أدنى وفيه تستورد الدول حاجاتها من الدول المُتقدمة ويختلف المستوى حسب نوعية المستورد وكميته وجدواه وحاجات الدولة إليه، ثم المستوى الثاني وهو الأعلى قليلاً وهو مستوى (الإنتاج) وفيه تقوم الدولة بإنتاج احتياجاتها الداخلية بدلاً من استيرادها من الدول الأخرى، ثم مستوى (التصدير) وهو الأكثر علوا وفيه تقوم الدولة وبعد أن تصبح مكتفية من الإنتاج بتصدير ما يزيد عن حاجتها من المواد لكي يقوى اقتصادها وثروتها.

وقد وزع أكاماتسو العملية إلى ثلاث مراحل مرتبطة لابد منها لكل دولة منتجة تريد أن تتقدم في هذه المجموعة.

المرحلة الأولى: تستورد بلدان المجموعة الثانية كوريا وهونغ كونغ وسنغافورة وتايون (النامية) المُنتجات من البلد المتقدم وهي (اليابان) لتغطية احتياجاتها.

المرحلة الثانية: تقوم هذه البلدان بإنتاج ما تحتاجه من مواد وذلك بدعم وتمويل من البلد المُتقدم (اليابان).

المرحلة الثالثة: تصدر هذه الدول ما لديها من منتجات إلى الدول المتأخرة (ماليزيا تايلند إندونيسيا) لتساعدها بنفس العملية على الاستيراد أولاً ثم الإنتاج ثم التصدير وهكذا تكتمل الحلقة ويطير السرب، فكلما تقدمت اليابان لحقتها في التقدم باقي الدول عبر استيراد المعرفة والصناعة اليابانية ثم استيرادها وإنتاجها وتصديرها من دول المجموعة الثانية ثم الثالثة ثم دول العالم الأخرى.

وقد استفادت ماليزيا وسنغافورة من هذا النموذج أيما استفادة وأخفقت دول أخرى في الاستفادة منه.

على كل حال، هذه النظرية أصبحت قديمة جدًا وربما لم يعُد بالإمكان تطبيقها اليوم لكن ما زال يمكن الاعتماد عليها بطريقة ما والاستفادة منها وتطويرها خاصة في مثل بلداننا ومنطقتنا التي تتفاوت فيها إمكانيات الدول من مُتقدم مثل الهند إلى نامٍ إلى متأخر، وبإمكاننا أن نسعى لإيجاد خطط وشراكات تعاونية مع الدول الشقيقة والدول التي كانت تمثل يومًا ما جزءا من كياننا الكبير في المُحيط الهندي والسواحل الأفريقية.

تعليق عبر الفيس بوك