عشرية الربعي

 

غسان الشهابي

تظهر في الكثير من المُجتمعات شخصيات قيادية تبقى حاضرة وإن غابت. شخصيات بالغة التأثير في مُحيطها، وربما يتأخر هذا التأثير لأنَّ هذه الشخصيات تكون سابقة أوانها بأفكارها المُتقدمة، ومن مَن يُمكن إدراجهم تحت هذه المسميات والأوصاف، الراحل الدكتور أحمد الربعي، المفكر والمناضل الكويتي الذي كان له تأثير في بلده، وفي البحرين وعُمان.

حاولت طويلاً اقتناص مناسبة لأكتب شهادة قصيرة فيه لموقف عميق التأثير في نفسي وأنا في مطلع حياتي المهنية، إذ اكتظّ بهو أحد فنادق المنامة بالكتاب الكبار والمُفكرين وكنت أحاول اقتناص اللحظة التي أتحدث فيها مع "مُفكر" كبير، فإذا به يتهرَّب مني بخفة وسخرية مشيراً عليّ أن أقابل غيره كفلان أو فلان، وكأنه يُورطني معهم أو يورطهم معي، متكئاً على فارق السن وعلى قامته الفكرية، فأشحت عنه وإذا بي أمام الدكتور أحمد الربعي، فسألته تعليقاً عن آفاق عقد التسعينات وانعكاسه على المنطقة وجدار برلين قد انهار للتو، وكان هذا هو محور المُؤتمر، فسألني: "هل من المُمكن أن نُؤجل اللقاء إلى ما بعد الغداء... فقط أستريح قليلاً وآتيك"، فقلت في نفسي وهذا متهرّب آخر.

في الموعد المُحدد كان هو من يبحث عني ليبرّ بوعده، وجلس مُجيباً عن أسئلتي التي ربما كانت أقل نضجاً نظراً للسن والتجربة، ولكنه أحاله إلى لقاء عميق ومتميز، حيث السخاء والكرم بلا حدود، وحيث التدفق المبهر.

الأسبوع الماضي، احتفى عدد من مُحبي الراحل الدكتور أحمد الربعي بمرور عشر سنوات على رحيله، على الرغم من أنَّه كان مقيماً بيننا طيلة هذه السنوات، نستعيد مقولاته ومواقفه بالمقاطع التي خلدت بعضاً من آرائه في الوضع الكويتي والعربي، في الألم الذي يعتصره وهو يرى الأوضاع تتردى، يشرّح الأوضاع، ويرسم طريق الحلول، والمصيبة الكبرى أن الطرق لا تزال مرسومة مع مرور كل هذه السنين، ولكن لا أحد يجرؤ على سلكها، فتبقى المشاكل نفسها، والإخفاقات ذاتها، بل وتكبر وتتلون وتزداد قبحاً وتنفيراً، إذ ابتلعت ما ابتلعت من أموال وأعمار وفرص.

كالربعي يوجد أناس في كل مكان في وطننا الكبير خصوصاً، أعينهم حادة وبصيرتهم نافذة، ثاقبو الرأي، أعزّة الأنفس، غير أنَّ حظوظهم عاثرة إذ تُدير لهم الأجهزة الرسمية ظهورها لترحب ببيوت الخبرة الأجنبية التي تقبض الملايين وهي لا تحمل بيديها الفارغتين سوى قبض الريح.

تعليق عبر الفيس بوك