ثلاث قصص قصيرة


أمين دراوشة | فلسطين

(1)    [السفير]

الحقيقة إني لم أعد أستطيع أن أتخذ قراراتي كالسابق ، أشياء كثيرة تشدني نحو الهاوية ، و السقوط الأبدي ، و الموت كل الموت . زملائي و صلوا إلى أهدافهم ن فهناك الأعلامي ن و القتصادي ، و أنا ما زلت أرزح تحت وطئة الأملاق المطلق.. تخلوا عني ، فقد قال لي أحدهم قبل أيام و كنت قد رأيته صدفة في أحد الشوارع الشهيرة :
_ ستبقى كما أنت مشرد ، و تبحث عن القليل من القوت ، و تشعر إن العالم كله ضدك مع العلم إن أحقر حشرة تدب على الأرض لا تأبه لوجودك إلى أن تموت ، و ستكون معجزة إن وجدت أحد يقوم بدفنك . و رحل بعد أن قهقه بصوت عال ، و رمقني بنظرة لن أنساها طوال عمري ..
الحقيقة إن الإنسن لا يقدر على فعل الخطيئة ثم يتصرف كأنه لم يفعل شيئا أو ألآن الأمر لا يعنيه .. هكذا أنا و ابدا لن أستطيع مجاراة أقراني ..
هرولت نحو قلعتي _ و بيت الرجل قلعته _ أشعر بالخيبة و الفشل ، آه .. ما أقصى الأحساس بالفشل ..! إذ تصبح الدنيا بلا معنى .. و العيش في وحدة و غربة قاتلة حتى داخل النفس.. منذ شهور و أنا أعمل في إحدى الشركات الكبرى و فوجئت قبل أيام بطردي من العمل و ذلك لسبب بسيط و هو : علم مديري في العمل إني أحمل شهادة دكتوراه في العلوم السياسية ، دعاني لمكتبه و ما أن رأني حتى قال و علامات الدهشة و الذهول بادية عليه :
كيف أستطعت أن تخدعنا . ثم إستدرك قائلا : سياسي محنك و شرع بالضحك ، صمت برهة و أكمل : لا أستطيع يا عزيزي أن أبقيك في عملك الوضيع ، إبحث لك عن عمل أخر ..
_ و لكن ..
_ أرجوك لا أحتمل فكرة عملك عندي ، قد يكون لك مستقبل باهر خلال السنوات القادمة ..!
_ .. رحلت لاعنا السياسة و السياسيين ، و طفقت بالصراخ بأعلى صوتي : فلتذهب السياسة إلى الجحيم .
هويت على سريري محدقا بالسقف المهترىء ، طرقات خفيفة على الباب ، إنها هي ، ما الذي أتى بها هذه الحمقاء ..؟
فتحت الباب و قلت لها :
_ ماذا تريدين ..؟
دفعتني و دلفت إلى الداخل و البسمة على شفتيها ، وضعت يدها على خاصرتها ثم قالت :
_ لقد توفى سفيرنا ..
_ العمر لك ، و لكن من هو سفيرنا ..؟
_ سفيرنا في باريس .
_ وما علاقتي أنا ..؟
_ إن أبي يبذل المستحيل لكي تكون أنت ..
_ أيتها العصفورة .. هذا مستحيل ..!
وضعت يدها البيضاء الصغيرة على فمي قائلة :
_ ما أجملك و ألآنت صامت ..!
بعد عام تم نقلي إلى سفارتنا في نواكشط ، و لم تمض عدة شهور حتى نقلت إلى سفارتنا في زنجبار ..!
حبيبتي ما زالت ترافقني و ترفض فكرة الافتراق .. و عندما قلت لها يوما :
_ إنك تستحقين أفضل من ذلك .
أجابت :
_ يكفيني أن أرى ابتسامتك البريئة الرائعة على وجهك لأعلم أن العالم ما زال بخير ..
الفاكسات من والدها الذي استوصلت منه أحشاء الرحمة تصلنا يوميا لاعنا اليوم الذي تزوجت فيه ابنته ..
 
(2) [الخلود]

اطبق الليل على الكون ، وركنت الطبيعة إلى السكون، وهو يتقلب على فراشه ، وشعور قوي إن الفكرة المجنونة في رأسه بدأت تسري في دمه ، إنها لا تبرح مخيلته أبدا .. لذا صمم على القيام بها الآن ،وبهذه اللحظة ، جمع اشياءه ورحل نحو القمر ، وعندما شارف على الوصول عاد من حيث آتى..
وخاطب نفسه ساخرا منها :
    _ لم لا تبحثين عن شيء أكثر وهجا ..؟
    هزّ رأسه وقد أضمر أن يغير طريقه    .. سار نحو الشمس ، وعندما أصبح قاب قوسين منها أحترق بنار معارفه و أفكاره .. وطفقت الصور القديمة تتهادى أمامه ، فشاهد والده يهوي من أعلى قمة الجبل جثة هامدة ..!
    نظر إلى وراءه حيث بيته الصغير ، فهناك يرقد طفله ثم قائلا :
    _ لعله يحقق ما عجز جده وابيه عن تحقيقه ..

وأضاف :
    ولكن من ذا الذي يستطيع القول إنه حقق ذاته ..؟ ، ثم أليس صحيحا ..
     إنناكلنا إلى زوال..؟!


(3)  [أما صحيح مجنون]

رغم فقره، وحالته الصحية السيئة -تقول زوجته بعد أن تذرف دموعها الغزيرة، إنه يقضي يوماً أو بعض الأيام عندي وعدة شهور في المستشفى في تلك المدينة الملعونة- إلا أنه محبوب من قبل الناس،فهو ينفس عنهم بحديثه الذي لا يمل، ويودون لو كانوا مثله…. قبيل أن يأخذوه عنوة إلى المستشفى من بين الجموع وكان يصيح ويصرخ في الناس قائلاً:
- ليس بالضرورة أن نبني نفقاً أو جسراً وبيننا جائع.
ليس بالضرورة أن نكرم كاتباً مليونيراً بمئة ألف دينار وهناك جثة طفل مقبوضاً عليها في أحد المستشفيات…
زفر وأشاح بوجهه عن الناس، وأطرق برأسه إلى الأرض، ثم رفعه صائحاً: إلى متى أيها الناس؟
فرد أحدهم: إنه عذاب لا حيلة لنا في دفعه.
-آه… لن احتمل النظر إليكم بعد الآن.
اقتادوه إلى المستشفى…. شرع الناس بالهتاف إنهم يأخذون عقلنا.
عندما خرج ازار باوند من مستشفى المجانين قبل عشرت السنين سئل: ما هو شعورك؟ وكيف استطعت الاحتمال؟
أجاب: احتملت كل ذلك لأني كنت وما زلت على يقين بوجود شعب بكامله مجنون خارج أسوار المستشفى، وطفق بالضحك الهستيري.
صديقنا لم يخرج من المستشفى رغم أنهم سمحوا له بذلك، فبعد أن قضى فيها تسعة شهور لم يعد يحتمل الخروج، فما أن وصل إلى خارج الأسوار حتى قفل راجعاً بكامل إرادته، وعندما سأله الطبيب: لماذا رجعت؟
أجاب: لم يعد شيء يستطيع أن يعيد الحياة لقلبي اليباب… لقد فقد الناس الحلم ولست مستعداً لأن أفقد روحي…!
قطرات المطر الذي تتساقط تصفع وجه البشر، خاطب الطبيب قائلاً بعد أن رأى حبات المطر: عليهم أن يكونوا على حذر هذه الأيام…ّ
تعالت الصيحات من كل جانب تطالب بمعاقبة المسؤول… والإفراج عن جثة الطفل المقتول…
فارتفع صوته: ترى هل بدأت الحياة تورق… تزهر… فمع المطر كل شيء قابل للإصلاح.
هز الطبيب رأسه بسخرية وقال مخاطباً زملاءه: أما صحيح مجنون

 

تعليق عبر الفيس بوك