حاتم الطائي
◄ ثمة إجماع دولي وإقليمي على أن السلطنة تمثل البوابة الرئيسية التي من خلالها يمكن تنفيذ العديد من أهداف التنمية المستدامة
◄ مشروعات الاستزراع السمكي واستخراج النفط والغاز من المحيطات تشتمل على فرص اقتصادية واعدة
◄ الاستفادة من اقتصاد المُحيطات تُعزز استدامة البيئة، من خلال اتباع أفضل الآليات التي تضمن التوظيف الرشيد غير الجائر للموارد
لا تُنازعني أيَّة شكوك في أنَّ بلادي تحظى بمُستقبل مُزدهر، في ظل العديد من المُعطيات المُبشِّرة بذلك والسياسات والرؤى الإستراتيجية التي تُبرهن على ما ينتظر السلطنة من تقدمٍ ونماءٍ خلال السنواتِ المُقبلةِ.. ولقد طرحنا في غير مرة رؤيتنا بشأن النمو الاقتصادي وتحدياته، وآفاق الاستثمار وتطلعات المُجتمع من المشروعات الواعدة التي يترقب الجميع تنفيذها، سواء تلك التي طرحها البرنامج الوطني لتعزيز التنويع الاقتصادي "تنفيذ" أو ما يتم الإعلان عنه بين الفينة والأخرى في محافل مُتعددة.
وبالتوازي مع هذه الخطط والإستراتيجيات، تتعاظم الثقة الدولية في السلطنة وفي قدرتها على قيادة أبرز المُبادرات العالمية في قضايا التنمية، استلهامًا من المسيرة العمانية الرائدة في إرساء دعائم منظومة تنموية راسخة ترتكز في صلبها على رؤية سديدة، لا تبصر سوى الإنسان هدفًا وغايةً لهذه التنمية. ومن هنا نشأ التوافق والاتفاق بين مُختلف الأطراف الدولية المشاركة في مؤتمر اقتصاد المُحيطات وتكنولوجيا المستقبل- الذي احتضنت السلطنة أعماله على مدى 3 أيام، ضمن أجندة المُنتدى الدولي لدبلوماسية العلوم والتكنولوجيا؛ حيث خرج المؤتمر بحزمة من التوصيات في مُقدمتها ترشيح السلطنة لقيادة الجهود الدولية لتحقيق الهدف الرابع عشر من أهداف التنمية المُستدامة، والمتعلق بتطوير الأفكار الداعمة لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية المُستدامة وهو "الحياة تحت الماء". وهذه التوصية تعكس إيمان المُشاركين في المؤتمر من 30 دولة بقُدرات السلطنة على القيام بهذه المهمة، خاصة وأنَّ السلطنة وقبل نحو 3 أشهر من الآن استضافت المُؤتمر السنوي الثامن عشر للمنظمة العربية للتنمية الإدارية تحت عنوان "دور الحكومات العربية في تحقيق أهداف التنمية المُستدامة 2030". إذن نحن أمام إجماع دولي وإقليمي على أن السلطنة تمثل البوابة الرئيسية التي من خلالها يُمكن تنفيذ العديد من أهداف التنمية المُستدامة، خاصة وأنَّه تمَّ إنجاز عددٍ كبيرٍ من هذه الأهداف في عُمان. لكن ترشيح السلطنة لتقود الجهود الدولية الخاصة بالهدف الرابع عشر يؤكد نجاعة الخطط الحكومية في الاستفادة من الموارد المائية في عملية التنمية، وتوظيف ما تزخر به السلطنة من شواطئ مُمتدة بطول البلاد لرفد الاقتصاد الوطني بمزيد من عوامل النمو والتَّقدم، في مسعى منها لتحقيق تنمية شاملة ومُستدامة.
ومن أجل هذه التنمية، اتخذت مؤسسات الدولة الحكومية مُختلف الإجراءات على مدار سنوات النهضة المُباركة، حتى بلغت مبلغاً متقدماً فيها، لاسيما فيما يتعلق بتوظيف التقنيات الحديثة للنهوض بالاقتصاد، وما عُمان الرقمية وجهود التحول الرقمي في الخدمات سوى ترجمة لذلك الجهد. وباستضافة مؤتمر اقتصاد المُحيطات، سعت السلطنة نحو التعرف على أبرز التقنيات الداعمة لنمو هذا النوع من الأعمال، والمُرتبطة بصورة أساسية مع البحث العلمي، وهو المجال الذي تُوليه الحكومة كذلك اهتماماً كبيرًا، ونحن بالفعل مطلعون على ما تحرص عليه المؤسسات المعنية المختلفة من أجل تطوير البحوث العلمية، ودعم الشباب في مجالات الابتكار والتكنولوجيا، فالطاقات البشرية الكبيرة التي يتمتع بها مُجتمعنا الفتي، جديرة بأن تجد البوتقة الحاضنة لها، كي تنصهر في مشروعات بناءة وعوائد اقتصادية مُقدرة.
لكن السؤال المطروح بعد هذه التوصية بقيادة السلطنة للجهود التنموية الدولية، هو كيف يُمكن للسلطنة أن تدعم هذه التحركات الرامية إلى تطوير وبلورة الأفكار التنموية الخاصة بالهدف الرابع عشر المتمثل في "الحياة تحت الماء"؟ وما هي أبرز القطاعات القادرة على تحويل هذه الأفكار إلى مشروعات تنموية تُحقق الصدى المأمول منها على أرض الواقع؟ والأهم من ذلك: ما هي الجهات المسؤولة والداعمة لمثل هذه المشروعات؟
الإجابة هنا تستدعي الإشارة إلى أنَّ بناء مستقبل اقتصاد المحيطات يتطلب التركيز على علم المُحيطات وما يرتبط عليه من مفاهيم وأبحاث ودراسات تضع الأسس للتقنيات المشغلة لما يُمكن أن يتضمنه من مشروعات واعدة. وعلم المحيطات، وفقًا لتعريفات علمية عدة، يهتم بدارسة آليات الاستفادة من الماء الذي يمثل 71 في المئة من مساحة كوكب الأرض، بكل ما يحتويه من كنوز وفرص تنموية هائلة، وخاصة الأحياء البحرية التي تعيش فيه، والخصائص الفيزيائية والكيميائية والأحيائية فيه، بجانب الصفات الجيولوجية. وفي ظل التقدم الهائل في وسائل الاتصالات وتقنيات الاستكشاف، بات من اليسير توظيف هذه الأدوات للتعرف على ما تحتويه المحيطات من موارد طبيعية يُمكن أن تُسهم في النمو الاقتصادي. وهذا يقودنا إلى الإجابة عن التساؤل الخاص بطبيعة القطاعات التي يُمكن أن تُساعدنا على الاستفادة من هذه الموارد في إطار منظومة مُتكاملة يُطلق عليها الاقتصاد الأزرق، وفي المقدمة منها آليات استخراج النفط والغاز من المحيطات، وكذلك الحصول على الطاقة المتجددة من أعماقها. القطاع اللوجستي هو الآخر يُمكن أن يُسهم بجانب كبير في نمو هذا الاقتصاد، بفضل ما يُقدمه من خدمات النقل البحري التي تدعم زيادة الصادرات وتعزز من حركة الشحن في الموانئ بين الدول، وهو ما يعود بالنفع على الأداء الاقتصادي بشكل عام. والمحيطات أيضًا مساحة شاسعة مفتوحة لمشاريع الاستزراع السمكي، ولقد بدأ هذا النوع من المشاريع في النمو بالسلطنة، مع تخصيص الجهات المعنية لعدد من المواقع لتنفيذ مشروعات استزراع سمكي، تُسهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء، وهنا نتحدث عن الأسماك كمصدر غذائي غني يُفضله العمانيون، وأيضًا تصدير بعض الأنواع للخارج، ودعم الميزان التجاري مع بعض الدول وزيادة النقد الأجنبي أو ما يُعرف بالعملة الصعبة، إلى جانب إيجاد فرص عمل للمواطنين في هذه المشاريع، وحصول المؤسسات الصغيرة والمتوسطة على أعمال مساندة، تساعدها على النمو.
قطاعات أخرى أيضًا يُمكن أن تدعم نمو اقتصاد المحيطات، وهي قطاعات التمويل والتأمين، فإنشاء المشروعات يستلزم توفير تمويلات ضخمة من أجل تأسيس مشروعات عملاقة تحقق الفائدة المرجوة، وأيضًا بالتوازي مع ذلك التأمين على هذه المشروعات وما يتم تصديره من منتجات متنوعة.
والتوجه نحو الاستفادة من اقتصاد المُحيطات يُعزز استدامة البيئة، من خلال اتباع أفضل الآليات التي تضمن التوظيف الرشيد غير الجائر للموارد، ويضمن أيضًا مواصلة جهود تنمية البيئة البحرية، من خلال تنظيم عمليات الصيد، وتحقيق أعلى معدلات السلامة البيئية عند استخراج النفط أو الغاز، وغيرها من الإجراءات التي تسعى لضمان عدم الإضرار بهذه البيئة، باعتبارها ملكًا لجميع الأجيال الحالية والمُستقبلية، وأن مسؤولية حمياتها تقع على الجميع؛ مؤسسات الدولة العامة ومؤسسات القطاع الخاص والمستثمرين الذين سيضخون أموالهم للاستثمار في هذه المشروعات.
لقد نجح مؤتمر اقتصاد المُحيطات في أن يُعزز الربط بين الأنشطة الدبلوماسية ومجالات العلوم والاقتصاد، عبر إيجاد العامل المشترك والمتمثل في مصالح الدول، لاسيما تلك التي تطل على المُحيطات وتزخر بموارد مائية. ولذلك نشأ مصطلح جديد هو "دبلوماسية العلوم والتكنولوجيا" بهدف لفت الأنظار نحو دور التحركات الدبلوماسية في تطوير العلم، وإبراز قدرة التقنيات الحديثة على دعم الابتكارات عبر التعاون الدولي المُثمر، وتحفيز الباحثين حول العالم على الإسهام في هذا الجانب بما يملكون من قدرات على التفكير النقدي وطرح الحلول العلمية لحل مشكلات العالم ومواجهة نقص الموارد.
ويبقى القول إن تنظيم العمل في القطاعات المرتبطة باقتصاد المحيطات يستهدف في الأساس دعم استدامة هذه الموارد المائية، وتوظيفها على النحو الأمثل، لضمان حقوق الأجيال القادمة، مع تعزيز دورها في رفد النمو الاقتصادي للبلدان المطلة على السواحل، وذلك وفق آلية دولية واضحة وتنسيق عالمي واسع، يقوم في أساسه على وضع التشريعات المنظمة لهذا الاقتصاد، وتحديد المشروعات المؤمل تنفيذها، وجهود جذب الاستثمارات لها. وما يعني السلطنة في هذا المقام، هو كيفية توظيف ما تمتلكه من موارد كي تواصل مسيرتها التنموية وتحقق العيش الكريم للمواطن.