مهنة التسول

 

د. عبد الله باحجاج

رغم وجود قانون في بلادنا يُجرِّم التسول، ورغم وجود لجنة لمكافحته، إلا أنَّ التسول قد أصبح الآن ظاهرة مقلقة، ولم تعد عابرة، وإنما هي الآن مستفحلة، ويبدو أنَّها في كل محافظات البلاد، لكن في ظفار، يبدو لنا الاستفحال قد تجاوز المعقول، وقد أصبح ينتج وقائع بنيوية مفتوحة الآفاق، تحركها لوبيات نفعية، تقف وراء استيراد واستغلال ودعم الوافدين الأجانب للمصلحة المشتركة.

تحولت الآن إلى مهنة، والاتجار بالأطفال والنساء والأمراض، ولم نعُد نفرق بين المحتاج فعلاً من عدمه، يلتبس عليك الكل، وتميل في الحكم إلى احتراف مهنة التسول، لأنها ظاهرة ليس لها حيز مكاني ولا وقت معلوم، تتفاجأ الأسر الآمنة في سربها بنساء وأطفال وكبار السن داخل المنازل، ويخرج المصلون من حالة الاستحضار بُعيد كل صلاة مكتوبة، وهم من جنسيات مُتعددة، وانتشارهم وصل إلى كل تجمع سكني في الريف والصحراء، ومن ثم لا يمكن اعتبار التسول الآن حدثا عابرا، أو من السهولة اقتلاعه، فأين دور اللجنة التي شكلت من عدة مؤسسات حكومية لمُكافحة هذه الظاهرة؟ وكيف تركتها تتوغل إلى هذه الأعماق؟ وبينما كنَّا نكتب هذا المقال تواصل معنا أحد المواطنين منزعجًا من ظاهرة تزايد سكن وافدين، حددهم من جنسيتي الصومال وإثيوبيا في المزارع القريبة من سكناه، مبدياً قلقه مما هو أسوأ الاحتمالات عندما لا يجد مثل هؤلاء النازحين مأكلا أو مشربا، وعندما تكثر أعدادهم مثل ما حدث قبل عدة سنوات .. ما اضطر السلطات إلى إنزال وحدات عسكرية إلى المدن.

هل هذا يعني أنَّ ظاهرة التسول أجنبية خالصة أم مشتركة؟ لو احتكمنا لمنطق المشاهدة والرقابة، فستكون الإجابة أن الظاهرة أجنبية خالصة، لكننا لو رجعنا إلى إحصائيات عام 2014، فسنجد النسبة العُمانية تبلغ 6% و94% أجنبية، والنسبة العمانية ورغم محدوديتها، هل وراءها فعلا الفقر والظروف القهرية؟ وتلكم النسبة على مستوى السلطنة، نطرح التساؤلان الأخيران رغم علمنا بقوة التكافل الاجتماعي والتضامن الإنساني في بلادنا مع هذه الحالات، لكننا نطرحهما للزوم الدراسة، وفتح آفاق إقامة جمعيات خيرية في كل محافظات البلاد لانتشال الحالات التي قد تعصف بها التحولات الاقتصادية الجديدة في بلادنا، أو ترمي بها تقلبات الأحوال الزمنية في أودية الأمراض والتداعيات الأخرى – لا قدر الله – وبالتالي، فإنَّ قضية نقل التكافل الطوعي من طابعه المزاجي إلى الطابع المؤسساتي المنظم، من أهم الأولويات العاجلة لمواجهة التغييرات الاجتماعية الناجمة عن سياسات وقوانين التحولات الجديدة.

وربما يقف الآن المراهنون على مقولة "أفضل وسيلة لمُكافحة التسول هي تجاهل المتسول" في خطأ تاريخي مع ذواتهم، فأفراد المُجتمع لا يُمكنهم تجاهل المتسول بسبب الأساليب الاستعطافية المؤثرة على السيكولوجية الاجتماعية، فالمتسول يستخدم كل طرق وأساليب كسب القلوب من أطفال ونساء واستغلال حالات مرضية حقيقية ومصطنعة مما يؤثر سريعًا على الجوانب العاطفية للمجتمع، فهل هذه المقولة هي السبب وراء وقف مكافحة التسول؟ ولو تركنا هذه الظاهرة دون حل، هل ستحل نفسها بنفسها أم ستدخل البلاد في مسارات متعددة الخطورة؟ الإجابة هنا معلومة بالضرورة، إذن، كيف نفسر الصمت؟

ربما يسود الاعتقاد الرسمي والاجتماعي بأن وراء هذه الظاهرة الأشقاء من اليمن بسبب ظروف بلادهم القهرية، وهي ظروف بطبيعة حال مُقدرة، وكلنا متعاطف معهم، وبلادنا من مختلف المستويات الفوقية والرأسية، تشركهم في خدماتنا الصحية والمعيشية، فخدمات مستشفى السلطان قابوس بصلالة وخدمات مستشفى المزيونة، مفتوحة للأشقاء مهما كانت تداعياتها على أوضاعنا (...) لكن، لا يُمكننا أن نقبل للأشقاء إهانات مظاهر التسول بالطرق الراهنة، ولا المظاهر الملتبسة التي يُمكن مشاهدتها في مواقف سيارات مستشفى السلطان قابوس، اهتمامنا بإنسانية الإنسان اليمني، يجعلنا نعزز دور فريق الأيادي البيضاء عبر دعمه مالياً من المجتمع ومن الهيئة العمانية للأعمال الخيرية، فمن قصدنا للعلاج ولم يجد سكناً، يستوجب توفير له السكن الملائم، مثل ما يتوفر له الفاتورة العلاجية المجانية من الدولة والمجتمع معًا وفي آن واحد وبصورة تكاملية .. وقد أبدى شخصية تطلق على نفسها مسمى "خادم الإنسانية" استعداده لإقامة مجمع سكني على نفقته الخاصة بالقرب من المستشفى إذا ما توفرت له قطعة أرض، فهل ستستجيب وزارة الصحة لهذا الطلب؟

لكن، وهذا هو الأهم، أنَّ ظاهرة التسول ليست منحصرة في الجنسية اليمنية فقط، فهناك جنسيات عربية وغير عربية عابرة للحدود وأخرى وافدة قد احترفت التسول، ويقف وراءها لوبيات منتفعة معها أو منها، فهل نترك هذه الظاهرة بكل علاتها وتؤسس لنا ظواهر مستفحلة؟ وهناك قصص كثيرة تدلل على هذه النتائج، نضرب هنا مثلاً بآخر المشاهدات، امرأة من جنسية عربية في منتصف الثلاثينيات من العمر معها طفلة لم تتجاوز سن الأربعة أشهر تجوب بها المناطق الريفية، وتعقبها امرأة كبيرة في السن، فمن وراءهما؟ وكيف تعبران هذه المناطق ما لم يكن وراءهما ظهر.

وهنا نجد أنفسنا أمام تساؤل مهم جدًا، وهو من ينبغي أن تقع عليه مسؤولية مراقبة أداء لجنة مكافحة التسول خاصة ومتابعة ملف التسول عامة؟ المسؤولية تقع هنا على عاتق لجنة الشؤون الصحية والبيئية بالمجلس البلدي، أين دورها في هذه القضية؟ وهي تمثل المجتمع في مشاركتها الإقليمية مع المؤسسات الحكومية؟ كيف تظل متفرجة على قضية التسول حتى الآن؟ وإخفاقها في دورها مع إخفاق اللجنة الحكومية تكون النتيجة ما نشهده الآن من ظواهر سلبية كظاهرة التسول وظاهرة التسرب من المدارس وظاهرة القات وظاهرة سهر الأطفال والشباب في الشوارع والمقاهي حتى الصباح .. إلخ ماذا يجري لكم يا مُمثلي المجتمع في البلدي والشورى؟ لا يُمكن قبول شماعة الصلاحيات رغم صحتها، لأنَّ ما يقابلها حجة عليكم لا لكم، وهي أين فاعليتكم في الأداء والمتابعة؟ هل تحتاج بدروها لقرار أو مرسوم افعل أو لا تفعل؟ دعوة عاجلة للتدخل السريع في قضية التسول من قبل كل الجهات المعنية بهذا الملف.

 

 

 

 

 

الأكثر قراءة