حاتم الطائي
الحديث عن زيادة الإنتاجية لا يمثل فقط المعني الظاهري الذي يشير إلى رفع الموظف لمستوى إنتاجه، أو زيادة عدد ساعات عمله، بل في الأساس يعني ضرورة أن يكون الموظف مبدعا، وكيف يمكن للموظف أن يطوّر من عمله بآليات ووسائل تساعده على تنمية مهاراته وقدراته الوظيفية، وهنا تحقق الإنتاجية، وتنمو، وتنجح المؤسسة التي ينتمي إليها الموظف، ولذلك الإنتاجية تعادل الإبداع، والإبداع يقود للتطور، والتطور نتيجته الحتمية النمو وزيادة الأداء والأرباح.
هكذا بوضوح ناقشنا مع الخبراء والمختصين قضية "الإنتاجية.. مسؤوليات وإجراءات لازمة"، وهي عنوان الدورة الثانية من منتدى عمان للموارد البشرية، الذي نظمته جريدة الرؤية للعام الثاني على التوالي، بنجاح يعكس التزامنا بمواصلة نهج إعلام المبادرات والتأكيد على الدور الأساسي للإعلام في توعية الرأي العام بمختلف القضايا، عبر أدوات معاصرة تتجاوز مرحلة الصحافة الورقية، لتنطلق إلى آفاق الإعلام الجديد، بما يعزز من التواصل بين الإعلام والمجتمع بصورة أكثر تأثيرا وفعالية.
والمنتدى الذي شهد مشاركات واسعة من أصحاب الخبرات والمعنيين بقضايا تنمية المورد البشري، الذي يمثل عصب العمل والإنتاج، مهما تقدمت الآلة وتقلص الاعتماد على العنصر البشري، فالمبدعون القادرون على تصميم تطبيقات العمل وأنظمة الإدارة، يعتمدون في الأساس على عنصر بشري لتشغيلها. وهذا يقودنا إلى أن تراجع عدد الوظائف في قطاعات بعينها نظرا لسيطرة الآلة والتقنيات الحديثة، لاسيما تلك القائمة على إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي، يؤكد أن وظائف أخرى تنشأ وتظهر لأول مرة، وخاصة الوظائف المرتبطة بمخرجات الثورة الصناعية الرابعة.
ولقد اختتمت أعمال المنتدى بإعلان البيان الختامي، الذي تضمن مجموعة من التوصيات والتطلعات التي أبداها جميع المشاركين في المنتدى، سواء من المتحدثين أو الجمهور الذي حرص على متابعة الفعاليات داخل قاعة المنتدى أو عبر شبكات التواصل الاجتماعي. وفي المقدمة من التوصيات التي طرحها المنتدى أنّه دعا إلى إطلاق مؤشر وطني لقياس الإنتاجية في المؤسسات العامة والخاصة، وذلك في إطار استهداف وضع تصور شامل لآليات زيادة الإنتاجية، وهي الآليات التي أشرنا آنفا أنها يجب أن تعتمد بصورة أساسية على تحفيز الإبداع لدى الموظف قبل كل شيء، ولا توجه له الأمر بالعمل المتواصل وحسب، وإنما العمل وفق إرادة تضع نصب أعينها أنّ الوظيفة ليست مجرد عملا من أجل الربح، لكنّها أيضا وسيلة من وسائل التعبير عن الرغبة في النجاح والتأكيد على أن كل فرد قادر على الارتقاء بطموحاته إلى عنان السماء.
وإطلاق المؤشر الوطني لقياس الإنتاجية، يجب أيضا أن يستفيد من التقنيات الحديثة، وما أنتجته الثورة الصناعية الرابعة من تطبيقات وبرمجيات تضمن الحيادية بين الموظفين وألا يكون لآلية القياس بعدا شخصيا من المدير أو الرئيس في العمل، وأن توفر أعلى معايير النزاهة التي تكفل المساواة بين جميع الموظفين بناء على وسائل شفافة يعلمها الجميع، كما أن من الضروري أن يعمل المؤشر الوطني لقياس الإنتاجية بدقة تحول دون عدم إنصاف موظف، وهذه كلها عناصر قابلة للتطبيق في ظل ثورة تقنية قادرة على طرح تطبيقات تتسم بأعلى معايير الدقة والانضباط.
وفي سبيل زيادة الإنتاجية، ينبغي ابتداءً العمل على صياغة وتبني استراتيجية شاملة ورؤية كاملة لكيفية تطوير الموارد البشرية، تقوم على تطبيقها جميع المؤسسات، شريطة أن تكون ملزمة، سواء في القطاع الحكومي أم القطاع الخاص. وعندما نتحدث عن إلزامية التطبيق، لا نشير إلى إلزامية الإعلان عن نسب ومعدلات وإحصائيات تقول لنا إن جهة ما نظمت عشرات الدورات التدريبية لتطوير موظفيها، بل نريد آلية للتطوير تعلن للمجتمع مستوى التطور الذي تحقق في مؤسسة ما. أذكر مثالا بإحدى الشركات تبنت فيه خطة لتطوير مواردها البشرية، لم تعقد دورات تدريبية ذات عناوين براقة، بل اكتفت بمجموعة من الدورات التدريبية التأهيلية للسمات والمهارات الشخصية، وتركت المجال بعد ذلك مفتوحا لجميع الموظفين من أجل الإبداع، وهنا كانت نقطة انطلاقة هذه المؤسسة نحو مزيد من التقدم، أنها ركزت على تطوير مهارات الموظف من خلال الموظف نفسه، لا من خلال إلحاقه بدورات تدريبية تخبره بما يجب فعله وما لا يجب فعله، وبالتأكيد نحن هنا لا نقلل من شأن هذه الدورات، بل هي أساسية ومطلوبة، لكن في مرحلة ما من أداء المؤسسة تكون هذه الدورات ذات فائدة أقل لبعض الموظفين، وربما تكون فائدتها أكبر لحديثي التعيين. وبالتوازي مع وضع هذه الاستراتيجية فإن ضمان نجاح تنفيذها يستلزم تكليف جهة موحدة بتطوير كوادرنا الوطنية إشرافا وتخطيطا وتنفيذا، لأننا في السياق نتحدث عن رؤية شاملة لمختلف القطاعات، وليس فقط تطوير قطاع دون آخر، وتشتت الجهات يُضعف من قوة الحلول المطروحة، في حين أن توحيدها من شأنه أن يحقق الأهداف المنشودة بجودة عالية.
ومن بين الحلول التي اقترحها المنتدى لتطوير الكوادر الوطنية العاملة، أن يتم طرح برامج للدبلومات المهنية الموجهة والمرتبطة بنماذج عالمية، ونرى أن هذا النوع من البرامج التعليمية قادر على تأهيل الشباب لاسيما أولئك المنخرطين في العمل حديثا، على أن يكون التدريب على رأس العمل، وبالتالي يقوم العامل بعمله ويتعلم في الوقت ذاته، وهنا تتحقق فائدتان؛ الأولى ألا يتوقف العامل عن عمله فتتراجع مستويات الإنتاجية وتتضرر مصالح المؤسسة التي يعمل فيها، أمّا الفائدة الثانية فتتمثل في اقتناع العامل بأن هذا التدريب جزء لا يتجزأ عن عمله، وبالتالي يحرص كل الحرص على بذل أعلى طاقة ممكنة خلال التدريب كما هو الحال في العمل. ومن هذه النقطة، ذهب البيان الختامي من المنتدى إلى ضرورة اعتماد المؤهلات المهنية أساسًا لتطوير المهارات، بما ينعكس بصورة إيجابية على تعزيز الإنتاجية، وتطوير الأداء الوظيفي.
توصيات عدة وتطلعات عريضة خرج بها منتدى عمان للموارد البشرية في دورته الثانية، وتم عرضها أمام الجميع، ونأمل أن تجد طريقها للترجمة على أرض الواقع، وأن تتلقفها المؤسسات، حكومية وخاصة، وأن تعمل على تطبيقها، خاصة تلك المتعلقة بآليات زيادة الإنتاجية، التي ستقودنا حتمًا إلى نمو في الأنشطة والأعمال، وبالتالي نمو اقتصادنا الوطني، وتحقيق الطموحات التي نأملها بسواعد شبابنا وفتياتنا.
ويبقى القول.. إن زيادة الإنتاجية باتت هدفا طموحا تسعى إليه مختلف المؤسسات، وهي في ذلك تتبنى نماذج تحسين الأداء الوظيفي، وطرح الحوافز التي تعين على التطوير والتحديث، لكننا نؤكد ونوجه خطابنا لجموع الموظفين والعاملين، أنّ الحوافز وبرامج التطوير وحدها لن تكون كافية ما لم يتمتعوا بالقدر الكافي من الدافعية، وأن يتحلى كل فرد بالدوافع الكافية التي تساعده على تطوير أدائه الوظيفي وزيادة إنتاجيته، ومن ثم يعود ذلك عليه بالنفع والنجاح والتميز سواء داخل بيئة العمل أو في محيطه الأسري والمجتمعي.