الصبرُ جميل .. يهنا لكل من صبر

 

علي بن سالم كفيتان بيت سعيد

 

إنَّ الواقع المرير الذي عاشته ظفار خاصة والسلطنة بشكل عام قبيل انبلاج فجر النهضة المُباركة التي قادها جلالة السلطان -حفظه الله ورعاه- يضعنا أمام حقائق ومراحل يجب النظر إليها بتمعن ففي الوقت الذي كان الجميع ينزحون في هجرات جماعية إما إلى اليمن أو إلى الخليج كانت صلالة حاضرة الجنوب ترزح تحت وطأة الحصار الذي فرضته على نفسها بسور يلف أحياءها ويبعدها عن محيطها الجغرافي الذي يهب لها الحياة، فبدون ريف ظفار وباديتها باتت المدينة خرابا وعاش النّاس فيها معاناة توازي خارجها، بل إنَّ فرض القوانين التعسفية جعل المقام في المدينة أمراً لا يُطاق وفي هذا المقال نستخلص ذلك من قصيدة المرحوم الشاعر والأديب سالم بن عامر بن منصور الرواس التي وثقت هجرته وهو رجل ضرير مع قوافل النازحين لليمن والمُعاناة التي لاقاها والمناطق التي مرَّ بها والأحوال التي عاشها فمدح بيوت الكرم والطيب ومجالس الأدب وعاتب بأسلوب راقٍ من لم يقم بالواجب معهم.

ولد الشاعر لأسرة عريقة فكان والده من وجهاء ظفار وتجارها المعروفين المشهود لهم بالكرم والمواقف النبيلة مع الجميع ورغم ذلك لم تشفع له مكانته ولا حتى حالته الصحية كرجل ضرير للبقاء في المدينة المحاصرة ومن هنا نستقرئ أنَّ تلك المرحلة لم تستثنِ أحداً من معاناتها فقد أصبح الجميع شركاء في البحث عن حياة أفضل فهاجروا معاً على الدروب الموحشة الأعمى منهم والبصير النساء منهم والأطفال من حضر وريف وبادية فكم تُحكى لنا قصص هروب شباب عبر الشبك وهيامهم في الغابات والأودية ليحتضنهم الريفيون ويطعمونهم ومن ثم يستكملوا رحلات هجرتهم القصرية وفي هذه الشأن انصح بقراءة كتاب المؤلف سالم بن أحمد الغساني المعنون (الطريق والدليل) فهذا الشاب كذلك ابن لأحد تجار صلالة المعروفين ومع ذلك لم تعد الحياة مجدية داخل أسوارها فأخذ صاحبه وركبا إطار سيارة مهترئ في ظلمة الليل وسبحوا عبر الساحل حتى نفذوا من السور وهاموا في الجبال.

قصيدة الصبرُ جميل ... يهنا لكل من صبر... التي غناها الفنان أحمد بن مُبارك غدير كانت توثيقاً صادقاً لهذه المرحلة الصعبة فالمسير كان من عوقد وهي الحي الغربي لمدينة صلالة وهنا قال الشاعر (من عوقد نويت) وهذا يُدلل على أن الرجل كان في صراع كبير مع نفسه قبل أن يتخذ القرار فالنية في العادة تأتي بعد ترسيخ اليقين فالأمر صعب وليس يسيراً والرجل ضرير والدروب مهلكة ومع ذلك ترسخ في ضمير هذا الأديب الظفاري بأنه لا مقام في صلالة بعد اليوم وقال في عجز البيت نفسه من قصيدته تلك (غصباً ولو ما بغيت) مما يوضح بجلاء أنّه مكره على الهجرة فجميع الخيارات الأخرى أصبحت مستبعدة فاختار بن عامر بن منصور الخيار الصعب ووثق لنا بقريحته الشعرية كلمات لا تخلو من مسحة الحزن والشوق والحنين إلى ظفار رغم مُعاناته في طريق هجرته فقال في خاتمة أبياته المؤثرة (ظفار الغالية ... الأرض والبادية ... عليك بالعافية .... بعد التعب والكدر) وهذا دعاء لأهله الذين خلفهم من بعده وأرضه التي أحبها. لن أطيل عليكم وسأضع بين أيديكم نص قصيدة الشاعر الكبير سالم بن عامر بن منصور الرواس التي نظمها عام 1965 عليه رحمة الله فخلدت مرحلة هامة من مُعاناة الناس في حقبة كانت هي الأسو أ في تاريخ عُمانأ أ في تاريخ عُمان.

الصبر جميل يهنا لكل من صبر// الصبر جميل يهنا لكل من صبر

من عوقد نويت غصباً ولو ما بغيت// في ليلي سريت هذي حقوق السفر

ساعة بالبعير وساعة برجلي أسير// ما عندي دليل صابر لدق الحجر

عديت السكون والقلب فيه الشجون// وازداد الحنون ما حد لحالي ذكر

جينا درب صيق العن أبوها طريق// فيها ما تفيق ولا تحصل مفر

نزلة والطلوع تجلب إليك الصدوع// ما تعطيك طوع ياكم فيها شجر

جينا درب حوف يا خير تلك الطروف// لو عيني تشوف باحكي حكاي نظر

في جادب طرح سنبوقنا بالفرح// طوبه وانشرح زهوة لنور القمر

جينا بن نفيس تاجر وما هو فليس// من أصله خسيس الضيف ما يعتبر

بن خوار قام معنا بكل احترام// زايد في الكرم مالطفل فيهم قصر

في الغيضة عرب ياخير ذاك النسب// مجلس للأدب مفتوح لكل البشر

بمحفيف زان في أرض بن عوبثان// من إنس وجان فيها الزهور والثمر

في وقت الغروب دخلت ديرة يروب// محلاها دروب تصلح لصاحب موتر

يالله يامجيب عسى الدعاء تستجيب// فرجها قريب سهل ولا تعسر

ظفار الغالية الأرض والبادية// عليش بالعافية بعد التعب والكدر

 

.................................................................................

  • شكرا لسعادة السفير سالم بن علي بايعقوب المشيخي الذي زودني بنص القصيدة مغناة بصوت الفنان أحمد مبارك غدير.
  • انصح بقراءة مقال الكاتب والشاعر علي بن سعيد العامري (من عوقد نويت) جريدة الرؤية-2013.