سيناريوهات ما بعد هجوم منبج "الداعشي"

عبيدلي العبيدلي

كما تناقلت وسائل الإعلام: "لقي أربعة جنود أمريكيين مصرعهم في تفجير وسط مدينة منبج شمالي سوريا. وقالت القيادة المركزية بالجيش الأمريكي إن جنديين أمريكيين وموظفا مدنيا في وزارة الدفاع (البنتاجون) ومتعاقدا يساند الجيش الأمريكي في سوريا قتلوا في الهجوم. وقد وقع الهجوم قرب أحد المطاعم في المدينة لدى مرور دورية لقوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة؛ مما أدى لمقتل 10 آخرين على الأقل، إضافة للجنود الأمريكيين حسب ما أوردت مصادر محلية. ونقلت وسائل إعلام عن وكالة "أعماق" -الذراع الإعلامي لتنظيم ما يعرف بالدولة الإسلامية- تأكيده أن مقاتلا تابعا للتنظيم، فجَّر سُترته الناسفة مستهدفا دورية لقوات التحالف مما أدى لإصابة "3 جنود أمريكيين على الأقل". من جانبه "قال المرصد السوري لحقوق الإنسان ومقره لندن، إن عدد الضحايا ارتفع إلى 16 قتيلا".

ومن يتابع تطورات الأوضاع في سوريا، يدرك أنه ليس هناك ما هو جديد في  استمرار تنفيذ "داعش" عملياتها الإجرامية هناك، بغض النظر عن "الضحايا"، التي تستهدفهم تلك العمليات الغاشمة. ففي منتصف يوليو 2016 "أعلنت (داعش) مسؤوليتها عن سلسلة التفجيرات التي استهدفت مناطق عدة، غالبيتها تحت سيطرة قوات النظام، وفق ما أفادت وكالة "أعماق" المرتبطة بالتنظيم، فإن التنظيم مسؤول عن تفجيرات دمشق وطرطوس وحمص، فضلا عن مدينة الحسكة، الواقعة بمعظمها تحت سيطرة المقاتلين الأكراد". لكن الجديد المرافق لتلك العملية الأخيرة كونها أتت بعد فترة قصيرة نسبيا إثر إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن سياسة الولايات المتحدة تجاه سوريا والقاضية "بسحب قواتها من سوريا، وذلك مع إعلان الرئيس الأمريكي (هزيمة) تنظيم الدولة الإسلامية هناك". وبهذا الخصوص، أكدت السكرتيرة الإعلامية للبيت الأبيض سارة ساندرز، "أنَّ القوات الأمريكية بدأت بالفعل العودة إلى الولايات المتحدة".

هنا، تجدر الإشارة إلى اتهام العديد من الصحف الأمريكية، ومن بينهم صحيفة لوس أنجلوس تايمز "إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بأنها تقف وراء تصاعد حدة القتال في سوريا خلال الفترة الأخيرة؛ بسبب غياب الإستراتيجية لدى الإدارة الأمريكية، مشيرة إلى أنه ومنذ مجيء إدارة ترامب إلى البيت الأبيض، لم يكن واضحاً ما طبيعة الإجراءات التي ستتخذها الإدارة في سوريا؛ ممَّا عقد الوضع أكثر".

قبل مرور أقل من 4 أشهر، على ما جاء في تلك الصحيفة، وتحديدا في منتصف أكتوبر 2018 "علقت صحيفة "واشنطن بوست"، في تقرير أعدته ميسي رايان وبول سون وجون هدسون، "على التحول في الإستراتيجية الأمريكية في سوريا والتي بات عنوانها "الانسحاب الإيراني". ووصف التقرير التحول بأنه "فصل جديد" في التدخل الأمريكي في سوريا، ويعني بقاء القوات هناك لحين خروج القوات الإيرانية ووقف التوسع الإيراني في الشرق الأوسط".

قبل ذلك بحوالي أسبوع، أشارت صحيفة "وول سريت جورنال" إلى ما مفاده أنَّ "الخطة الأمريكية الجديدة تأتي كتصحيح لمسار الرؤية التي وضعها (دونالد ترامب) حول سوريا، والتي كانت تقتصر على إنهاء القتال ضد تنظيم "داعش"، وإخراج القوات الأمريكية في "القريب العاجل"؛ كانعكاس لشعار "أمريكا أولا" الذي تبناه (ترامب) أمام قاعدته الشعبية".

سبق كل ذلك، وتحديدا في مطلع العام 2018، لخص وزير الخارجية الأمريكي ريكس تليرسون -في كلمة ألقاها في معهد هوفر التابع لجامعة ستانفورد الأمريكية- الإستراتيجية الأمريكية الجديدة في سوريا فيما يلي: "وجود أمريكي في شرقي سوريا إلى أجل غير مسمى لمواجهة النفوذ الإيراني، ومنعها من إقامة ممرها البري الذي يربط بين إيران ولبنان، ومنع عودة ظهور تنظيمات متطرفة مثل الدولة الإسلامية والقاعدة، والوصول إلى تسوية سياسية للأزمة السورية تنهي حكم عائلة الأسد".

بعيدًا عن هذا التذبذب الذي شاب السياسة الأمريكية تجاه سوريا، كما كشفت عنه مجموعة من المصادر الأمريكية القريبة من دوائر صنع القرار في البيت الأبيض، والتي قد يبررها حرص الإدارة الأمريكية الراهنة على الانكفاء الداخلي للتركيز على القضايا المحلية، يمكن القول إن جميع صيغها كانت تتمحور حول تقليص الوجود، ومن ثم التدخل العسكري الأمريكي في سوريا، ومن ثمَّ تحجيم النشاطات الإرهابية التي يمارسها تنظيم "داعش"؛ وبالتالي يثير هذا التفجير الأخير الكثير من علامات الاستفهام، إذ إنه يُوحِي  وكأنما يدعو "داعش" واشنطن كي تتراجع عن سياسة تقليص تواجدها العسكري في سوريا. فهو بمثل تلك العملية التي ذهب ضحيتها أربعة من الجنود الأمريكان، كأنما يقول "أنا ما زلت حاضرًا، وفي وسعي القيام بعمليات انتحارية، في وضح النهار، وضد أهداف أمريكية مباشرة".

هذه العملية العسكرية الاستفزازية سياسيًّا وعسكريًّا في آن، تفتح المجال أمام مجموعة من السيناريوهات المحتملة للساحة السورية، يمكن إجمال الأكثر حظا بينها في النقاط التالية:

- تراجع الرئيس الأمريكي عن إستراتيجية الانسحاب، ولو بشكل مؤقت، لحفظ ماء دولة عظمى، يرافقها شن هجوم عسكري على مواقع "داعش"، من غير المستبعد أن يتم ذلك بتنسيق مع الأتراك الذين يهمهم توجيه المزيد من الضربات لهذا التنظيم، على أن يصاحب ذلك  تخفيف لهجة واشنطن المتشددة تجاه حماية المسلحين الأكراد، فيما لو نفذت هي إستراتيجية الانسحاب.

- جُلوس واشنطن وموسكو على طاولة مفاوضات، ليس من الضروري الإعلان عنها؛ من أجل الوصول إلى حل، ولو مُؤقت تجاه الساحة السورية، على أنْ يشمل ذلك فيما يشمل: وضع "مواجهة (داعش) في أعلى درجات سلم الأولويات"؛ الأمر الذي سنجم عنه موضوعيا، إرخاء القبضة على المشروع الإيراني؛ بما في ذلك تجميد الهجمات المتوقعة على مواقع "حزب الله" اللبناني بما فيها تلك المقامة على الأراضي السورية.

- اضطرار القوى الضالعة في المشروعات التي "تطبخ" لتحديد مسار مستقبل النظام السوري، كل على حدة، أو في التحالف الإستراتيجي الذي يحكمه، إلى إعادة خلط الأوراق من جديد؛ الأمر الذي من شأنه إعادة الحالة السورية إلى المربع الأول، وهذا بدوره سيرغم القوى المتصارعة إلى شحذ أسلحتها، وتصعيد مواجهاتها العسكرية؛ مما يُمكن أن يقود إلى ما يشبه الفوضى العسكرية التي قد تستمر فترة زمنية، تطول أو تقصر، وفقا للظروف التي ستُفرزها الصدامت العسكرية التي ستندلع حينها، والتي يصعب التكهن بنتائجها في هذه المرحلة المبكرة من استقراء اندلاعها.

وَلَّدت عملية "داعش" الأخيرة، رغم صِغر الحيز الذي شغلته، ظروفا جديدة، ربما ترغم أطراف الصراع -وفي مقدمتهم واشنطن، وروسيا، بل وحتى الكيان الصهيوني، وإيران- على إعادة النظر في إستراتيجياتها التي توهمت أنها ستضع حلا لصالح جهة دون أخرى.