المواطنة الوظيفية

 

 

د. سعيد بن سالم الحارثي

تتوسَّع قوائم الممارسين للترهيب الوظيفي بقدر النفوذ الذي تمنحه لهم القوانين غير المُحكمة، والتي ترهقها الثغرات. وفي مثل هذا المشهد، نجد أنَّ نفوذ السلطة يتحوَّل من قالبه اللوائحي الذي ينبغي أن يكفل الحقوق ويقيم الأمن الوظيفي، إلى قالب مفرغ من العدل والحس الذي يكفل ذلك الأمن. لذلك؛ يتنفذ المتنفذون، في غياب الرقابة، بممارسة ما يمكنه أن يقتطع الحقوق ويقيمها ويقعدها في موازين منطلقة من الشخصنة ومقتضيات المزاج العام. وعلى ذلك نلاحظ أن كثيراً من القرارات المتعلقة بحقوق الموظفين تأتي على شاكلة "أحبذ هذا" و"لا أحبذ هذا"، "وهذا يعطى" و"هذا لا يعطى"، وفقاً لرأي المدير وليس انطلاقاً من مرجعية تتكأ على اللوائح ونظم العمل. وهذا ما نجده بصورة أكبر في مؤسسات القطاع الخاص والمؤسسات التي تغيب عنها الرقابة الإدارية.

يتحدث العالم عن المواطنة الوظيفية كأساس حقيقي لمشروع البناء العام للأوطان. وعلى ذلك، فإنَّ احترام الثوابت التي تنطلق منها الدولة في مأسسة العمل، لا شك سيُسهم في تجسيد مجالات الدافعية نحو العمل، مما يكفل الممارسة الحقيقية للدفاع عن الثروات. ولا شك أنَّ بث روح الوفاء والولاء الوظيفي ينعكس بدوره على المواطنة الحقّة، ويسهم بشكل راسخ في الذود عن المكتسبات، وبالمقابل، تقبّل تكاليف الأزمات التي يمكن أن تواجه الدولة في أي مرحلة ولأي ظرف كان.

إنَّ الحديث عن الممارسات الإدارية التي يتجاوز فيها المتنفذون السلطة الممنوحة لهم، هو كالحديث عن ترهيب حقيقي ينخر في ثوابت الدولة، ويأتي على عهد طويل من الجهود المبذولة من أجل ترسيخ النظم واللوائح المراد لها أن تحدث التوازن الحقيقي الذي يجعل الجميع على قدم التساوي. ومهما بلغ ذلك التجاوز مبلغ الفائدة في ظاهرهِ عند أولئك الراغبين في تقويض البيروقراطية في إداراتهم، إلا أن ذلك يجعلهم كمن يحملون سلاحاً ذا حدين. إنَّ قضية الالتفات وبقوة إلى استحداث صلاحيات جديدة يتم انتزاعها من بين ثغرات القوانين واللوائح تعدّ من القضايا الشائعة والتي تشكل مصدر الترهيب الحقيقي للمواطنة الوظيفية في عموم مؤسسات الدولة. لذلك؛ نجد أنَّ الكثير من الموظفين يتم اعتقالهم نفسياً وفكرياً والزج بهم في أتون ذلك الترهيب؛ مما يفقدهم وضوح النظرة المستقبلية لمسار حياتهم الوظيفية. ومعنى أن يفقد الموظف أمنه الوظيفي، أي أن لا يرى أُفقاً أمامه لمساره التدريبي، ولا لمساره المهني، ولا للمسار الذي يكفل له الاستفاده من المكتسبات الحقيقية لكونه مواطناً.

ولا شك أنَّ الترهيب الوظيفي يعد ابناً شرعيًّا للفساد الوظيفي في المؤسسات، وهو أحد أهم القضايا التي ينبغي أن تلتفت إليها نظم الرقابة الإدارية. ومن المعلوم أنَّ تفاصيل انتشار هذه الآفة تبقَى في محل المبني للمجهول، إلا في أروقة المحاكم الإدارية، والتي تقضي بالأحكام في كثير من الأحوال لصالح الموظفين، إلا أنها لا تقضي بانتزاع أولئك المتنفذين من مناصبهم. وهذا ما ينبغي إعادة النظر فيه خاصة عندما تتكرر من نفس المسؤول أكثر من واقعة قضائية. وأعتقد أننا في مرحلة حرجة ينبغي أن يسري فيها القلم على الجميع. وليس كافياً في هذا الوقت المتقدم من عمر النظم والتشريعات، أن نسمع عن قضايا ذات مستوى معين هي التي يتم بسببها إحالة مسؤول إلى المحاكم، أو إعفاؤه من منصبة وفقط؛ لكونها تحرج الوطن. بل ينبغي أن نأخذ بقاعدة "وقفوهم إنهم مسؤولون".

يتزايد الاهتمام الدولي بموضوع المواطنة الوظيفية أو التنظيمية من منطلق القناعة حول دورها الإبداعي في تطوير سلوك الإدارات في المؤسسات العامة والخاصة. وبالرغم من أننا نقوم في السلطنة بإحداث تطوير حقيقي للنظم الإدارية على المستوى الوثائقي والتقني وعلى مستوى تدريب الأفراد على أحدث الممارسات، إلا أن الأطراف الأخرى ذات العلاقة لا تقوم بدورها على التوازي مع أنظمة وبرامج مؤسسات الخدمة المدنية؛ فالأثر الذي تُحدثه أجندة العمل لدى الرقابة الإدارية والمالية للدولة لا يكاد يكون بارزاً على مستوى الرقابة الإدارية، بالقدر الذي هو عليه في مستوى الرقابة المالية، وبالقدر الذي يتماشى مع تسارع الأنظمة الإدارية نفسها. وفي الطرف الموازي أيضاً، نجد أنَّ قرارات المحاكم الإدارية لا تتلقّى حقها من التحليل المبتكر الذي يسهم في تحسين المنظومة الإدارية على مستوى اللوائح، وعلى المستوى الأهم وهو تطوير رزمة الخصائص والصفات التي ينبغي أن ترتكز عليها عملية اختيار التنفيذيين. لذلك، أستبعد جازماً أن الرقابة الأمنية التي يُعتمد عليها حالياً كنافذة أساسية تمر من خلالها الموافقات عند اختيار التنفيذيين في الإدارة العليا، أن يكون لها دور في التحقق من السمات الدقيقة للشخصيات التي يتم اختيارها... والله المستعان.

تعليق عبر الفيس بوك