الثالثة بعد منتصف الليل لـ"مشلين بطرس"

...
...
...


مجدولين الجرماني | سوريا

منذ أول فاتحة للكلام تبدأ الكاتبة عمداً نحو جرنا كقراء إلى ما تريد هي, لربما كإشارة أو لفت نظر حين أهدت حبرها بالقول: إلى كل من لا يضع عينيه في منظار رؤية واحدة), وهذا يعني أنها ذهبت بمعنى الكلام مباشرة نحو فرد الأوراق على الطاولة لتقول هذا أنا على كل البياض, فأين أنتم؟.
ثمة أبواب متتالية تنفتح تباعاً كلما قلبت ورقة جديدة, كلٌ منها يذهب بك كقارئ إلى مطارح قد نتحاشى الدخول إلى تفاصيلها, ليس لشيء إنما لأن الوقت جبلنا على عادات وتقاليد مجبرين نتعامل بها ومعها, لكن الكاتبة السورية مشلين بطرس ومن خلال مجموعتها القصصية الجديدة والتي تجلت بخطي القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً (ق ق ج), وهو تحدي للمفارقة بين كلٌ من الخطين من معيار إن القصة القصيرة ذات روح أطول ويمكن عجنها على عكس (ق ق ج) التي تنهل مقوماتها البنائية من بحر الثقافة العميق والكثيف..
البداية الأولى من حيث "أرض الأسياد الأشراف" والتي دخلت بها عبر الباب العالي (سوريا) وكونها تتحدث اللغة السريانية فقد قدمت لها بالمناجاة وهي تكلل عنقها بطوق الياسمين: أيتها الأم الرءوم أما حانت العودة لنكون معا وتنتهي فواجع الروح في هذه البلاد. إنه الإيمان الراسخ بأن ولدت على أرض لا مثل لها بالكون كله, نعم رددت بإيمانها بصوت عال حينما دعتنا على لسان باولو كويلو"آمن وإن لم يؤمن بك أحد".
ثم تنتقل بنا بخطوات سردية متماسكة لتستخدم فن تسليط الضوء على البناء السردي من خلال الطريقة المباشرة وإسقاط قصصا ثرية مليئة بالتشويق والإثارة, والدهشة في ضفاف تبحث عن الأمكنة, بحيث تعرض شخصية "زوربا اليوناني الراقص على مشارف الحياة, فهو شخصية جدلية تستحق دراسة نقدية ونفسية, وفلسفة نيتشه, والشمس في يوم غائم للكاتب حنا مينة, "ها هم قد ثقبوا قلبه, وأنا سأثقب الأرض بقدمي, وأعزف بها والخنجر في يدي يغزل دوائر النور, لكي لا تكون ظلمة من بعد".
هي الحكايات ذاتها تتكرر, بلسان حال الواقع العربي الراهن من خلال معظم الثورات التي تعلن مخاضاتها , في سبيل تغيير الواقع السياسي والاجتماعي إلى أن تصل للحظة الدامية التي نعيشها اليوم, فنرى الكاتبة تتقمص رقصة الحياة واستمرارها من جديد لتعلن فورتها للملأ.
ثم تستحضر الكاتبة بودلير الشاعر الفرنسي في أزهار الشر وتحاكمه بطريقة منطقية مع الآن وكأنها تستنبط الجمال والخير من الشر, في تناقضات الحياة اليومية في المدن الكبرى التي تعج حاليا بالمتناقضات الاجتماعية والإنسانية , هي جدلية مستمرة بين الخير والشر والطريق للنور, ومارسيل يصدح أحن إلى خبز أمي, وهنا نشاهد بناء صور عضوية في القصة وأحداث كثيرة تخدم الفكرة الرئيسية بعمق فلسفي وثقافي مترابط..
أما في "نجمة تبعثر تلاشيها" فقد يمسك القارئ بالملامسة براعة نسج الحبكة والتكثيف والإيجاز, فمدام دوبوفوار, وغادة السمان, ومي زيادة, بحيث لا تتذكر واحدة إلا وتجتاحك الأخرى, نسوة يحملن نفس الصفات, كاتبة, مفكرة فيلسوفة, عاشقة, مجنونة وتشغل الرأي العام, فالكتابة انتحار وليس هناك حل لتفتح الوعي. وهذا تأكيد على معاناة المرأة المثقفةوالمتمردة على معتقدات اجتماعية.
وتتابع الأحداث التي تجلي عن موضوعات الفساد والجهل غبار البراءة وذلك في "دمعة وأرزة" و"وطن" و"المجهضة" وفي "الثالثة بعد منتصف الليل" يطل فيكتور هيجو( بحيث مازال ينتظر من المرأة وحدها مجد يعلن نهاية الحرب من كتاب الحياة), لا أنكر بأني استغرقت مع الكاتبة في التأمل بحيث تمثل سعد الله ونوس بمسرحية الاغتصاب المستمرة, بنهايتها المفتوحة ويرن الهاتف ويرن لتحاكي الوطن على الضفة الاخرى ويستمر النوم العميق بلا قيامة, وفي "أجنحة ترمم ريشها" تكشف لنا خبايا الزمن بين الماضي والحاضر والمستقبل
بحبة الفيل الأزرق( وهي تأخذ الإنسان في لا وعيه لرحلة استكشاف بين الأبعاد الزمكانية، وكأن الكاتبة تخبرنا بمدى احتياجنا لهكذا اكتشاف), وبحيرة البجع وترقص الكاتبة مذبوحة من الألم على هذه الانغام, وفي تبادل يجدد المستحيل من احترم خصوصية الفرد , تأتي بفرجينيا وولف وغرفتها الخاصة كاستشهاد على الواقع الذي لا يحترم حرية الاخر وخصوصيته , وكذلك تستشهد بقول جبران خليل جبران( ليتني أبقى طفلا لا يكبر أبدا فلا أنافق ولا أراهن ولا أكره أحدا) وهي أمنيات الكاتبة في هذا المجتمع المتخبط, وتدس بين السطور مقتطفات من كتاب التبادل المستحيل للكاتب والفيلسوف جان بودريار بحيث يقول رأس المال يتصف بالمكر, فلا يمكن مبادلة شيء بشيء, واستمرارية العدم هي التي تؤسس إمكان اللعبة الكبيرة للتداول لتخبرنا الكاتبة بعدمية كل الافكار وبان راس المال هو الحاكم الوحيد في هذا العالم , وتعرض من خلال شخوص القصة فكرة الاستنساخ للظروف والبيئة واستمرار تكرار الحروب و نتائجها اللاإنسانية على المجتمعات فالكاتبة تدخلنا بعمق الفلسفة الاجتماعية والمكانية وهكذا تفتح مصراعي كتابتها بتخبرينا عما يحدث وما سيحدث .
ومن خلال مجموعة من القصص القصيرة جدا, نجد إن الكاتبة تطرقت لموضوعات فيها من التابوهات أو المسكوت عنه, كالتي تحاكي قصص الفساد باسم الدين والأخلاق والجيل الضائع وغيرها إلى أن تضعنا في حضرة النحات الذي غرم بتمثاله في بغماليون, وهو ما جعل زخم المنسوب السردي يصل أقصاه من التحليق حينما تحدثت عن تاريخ الإنسانية, بالإشارة إلى قصيدة أوفيد السردية, وسيزيف ونجم سهيل وولادة أبدية وأليعازر.
وهكذا نلاحظ بأن الكاتبة سلطت الضوء على الفن القصصي ببنائه السردي العميق والتكثيف والإيجاز والدهشة مع الإبداع بالفكرة والمضمون وقد استخدمت أسلوب فني لغوي, استخدمت فيه مهارات كتابية وألفاظ قوية ومناسبة, مما أنتج قصصا ثرية بالمضمون والتشويق والحيوية والدهشة.
................................
صدرت عن دار أبعاد / بيروت

 

تعليق عبر الفيس بوك