تبرعات بناء المساجد ضرورة أم ترف؟!

 

سيف بن سالم المعمري

 

أعتنى العُمانيون بالمسجد منذ صدر الإسلام، فبنى الصحابي الجليل مازن بن غضوبة مسجد المضمار كأول مسجد في عُمان، ولقد خصص العُمانيون للمسجد أوقافا، لبنائها ورعايتها، وألحقت بها مدارس القرآن الكريم، والمجالس العامة ومغاسل الموتى، وتضاعف الاهتمام بالمساجد والجوامع في عهد النهضة المباركة، وأولاها حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- عنايته الكريمة، فبُنيت جوامع السلطان قابوس على النفقة الخاصة لجلالته في معظم ولايات السلطنة.

وامتدادا لنهج الأسلاف وللمكانة الروحية والتربوية والاجتماعية التي يشغلها المسجد، يتواصل بناء المساجد والجوامع على نفقة الحكومة ممثلة بعدة جهات، والبعض الآخر على نفقة أصحاب الأيادي البيضاء من المواطنين والمقيمين ووجهاء وأعيان البلاد، فلا تكاد تذهب إلى مدينة أو ولاية أو قرية في السلطنة إلا وتجد أعداد الجوامع والمساجد الحديثة في زيادة متسارعة، فذاك تم الانتهاء من بنائه قريبًا، والبعض منها في طور التشييد، وهناك مخططات قادمة لجوامع ومساجد تجمع لها التبرعات وهكذا.

 وإن كانت معظم تلك الجوامع والمساجد تبنى وتجمع لها الأموال- بعد الترخيص من الجهات ذات العلاقة كوزارة الأوقاف والشؤون الدينية وأخرى- ومع الاشتراطات التي وضعتها تلك الجهات للموافقة على بناء الجوامع والمساجد، والتي من بينها ما يتعلق بالحاجة الفعلية لجامع أو مسجد في منطقة معينة، والموافقة مقيدة بالكثافة السكانية والمسافة بين المسجد والآخر التي يجب ألا تقل عن كيلومتر واحد كأحد أدنى علاوة على الاشتراطات الأخرى.

ووفق آخر إحصائيات للمركز الوطني للإحصاء والمعلومات فقد بلغت أعداد الجوامع والمساجد في السلطنة بنهاية عام 2017م ما يزيد عن ستة عشر ألفا، منها 1443 جامعا، وبطبيعة الحال هذه الأرقام في تصاعد مستمر، نتيجة التهافت المحمود للتبرعات التي تتبناها مجموعة من المواطنين لبناء الجوامع والمساجد، وإن كان ذلك يُعد من الخصال النبيلة التي يتحلى بها أبناء المجتمع العُماني إلا هناك العديد من وجوه البر الأكثر إلحاحا ليلتفت إليها أبناء المجتمع، وقد لا نبالغ إن قلنا -ووفق رأي الكثير من أبناء المجتمع- أن تسخير الأموال الضخمة لبناء الجوامع والمساجد، تجاوزت في أحيان كثيرة الضرورة، وأصبح الكثير منها ترفا مجتمعيا. وقد يرى البعض أن الأموال التي توجه لبناء الجوامع والمساجد أفضل من تلك التي تذهب للدعاية والترويج لأشخاص ومؤسسات وإقامة الفعاليات التي لا تخدم إلا فئات نوعية في المجتمع، وأنه لا يجب التضييق على الناس في تبرعاتهم لبيوت الله، والرد على ذلك، بالقول: إنّ وجوه البر والخير والإحسان كثيرة جدا، وليست مقتصرة على بناء الجوامع والمساجد التي أصبح الكثير منها بحاجة إلى عناية وصيانة دورية، ولو سخرت أموالا في كل قرية أو ولاية لصيانة ونظافة المساجد ورعايتها لكان ذلك من أعظم وجوه البر والإحسان لرعاية المساجد بدل إهمالها، كما أنّ هناك حاجات ملحة للمجتمع تتطلب وقفة عاجلة والعون والمساعدة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسرٍ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه...." فهناك من أبناء المجتمع ممن بحاجة إلى مساعدة في بناء مسكن ملائم له ولأسرته أو ترميم منزله أو إعانته على شراء أجهزة التكييف والتبريد ونحوها، وهناك حاجة لكفالة الأيتام ومساعدة المعسرين، وهناك مَن بحاجة إلى أموال لعلاجه من أمراض مزمنة لا يتوفر العلاج إلا خارج السلطنة، وهناك من بحاجة إلى أجهزة تعويضية لمختلف الإعاقات، وهناك من يحتاج مساعدته على الأعباء الحياتية اليومية، وهناك من بحاجة إلى الذهاب إلى الحج والعمرة ولا يسعفه دخله الشهري لتوفير تكلفة الذهاب إلى الديار المقدسة، وهناك من منعتهم ظروفهم المادية عن الزواج ونحو ذلك الكثير.

وما يبعث في النفوس الألم حينما تتم المباهاة في أحجام الجوامع والمساجد والمبالغة المفرطة في أعمال الديكور والمظهر الجمالي والتي تكلف مبالغ قد تصل في الكثير منها إلى ربع تكلفة بناء المسجد أو الجامع أو يمكن أن تبني مسجدا آخر، مع الإشارة إلى أنّ الكثير من إعلانات التبرعات المرخصة التي نشاهدها في شبكات التواصل الاجتماعي وعلى واجهات ومداخل المساجد والجوامع القائمة، يحاول من خلالها القائمون على جمع التبرعات؛ لبناء المسجد أو الجامع في مواقع سكناهم وبالقرب من بيوتهم في الوقت الذي يمكن أن تكون هناك أماكن بحاجة ملحة ليُبنى فيها مسجد ولم تجد من يتبرع لها حتى الآن.