القائد العربي للخروج من المأزق

 

عبيدلي العبيدلي

وفقاً للاعترافات الرسمية للحكومة السودانية هناك "19 شخصًا على الأقل قُتلوا منذ 19 ديسمبر خلال الاحتجاجات التي أشعلها قرار الخرطوم رفع أسعار الخبز".

ووفقًا للمصادر ذاتها "التقى الرئيس السوداني عمر البشير عدداً من كبار الضباط في الخرطوم، وأمر الشرطة بالامتناع عن استخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين". يأتي ذلك في أعقاب تدهور الأوضاع الاقتصادية، بعد السياسية في السودان حيث "بلغت نسبة التضخّم 70 بالمئة بينما انخفضت قيمة الجنيه السوداني، في وقت شهدت مدن عدّة نقصاً في إمدادات الخبز والوقود". ولم يستطع الرئيس السوداني أن يُخفي تلك المشاكل حين قال "نحن نعترف بأنَّ لدينا مشكلة في الاقتصاد، والناس تعمل ليلا ونهاراً على حلها، (لكنه استدرك كي يتنصل من مسؤولية الحكومة عن ذلك قائلا) ولن تحل بالتخريب والتدمير والسرقة والنهب، ولن تحل بتدمير الممتلكات العامة والخاصة".

سبق ذلك على المستوى السياسي، رفع 294 نائباً عريضة (بإيعاز من البشير بطبيعة الحال) موقعة إلى رئيس البرلمان السوداني إبراهيم أحمد عمر، تُطالب بتعديل الدستور للسماح للرئيس عمر البشير بالترشح لولايات مفتوحة بدلاً من حصرها بولايتين فقط .ويطالب النواب في عريضتهم بتعديل المادة 57 من الدستور التي جاء فيها (يكون أجل ولاية رئيس الجمهورية 5 سنوات تبدأ من يوم توليه لمنصبه ويجوز إعادة انتخابه لولاية ثانية فحسب)، لتصبح مفتوحة دون تحديد".

قبل السودان انفجرت الأوضاع في تونس، حيث عرفت البلاد هناك "عدة مواجهات ليلية بين مُتظاهرين وقوات الأمن خلال احتجاجات على وفاة مصور صحافي أقدم على إحراق نفسه في المدينة. وشهد وسط مدينة القصرين حالة احتقان... حيث أشعل العشرات من المحتجين عجلات مطاطية وأغلقوا الطريق في حي النور وشارع الحبيب بورقيبة الرئيسي، وردت عليهم الشرطة باستعمال الغاز المسيل للدموع. وقال الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية سفيان الزعق إنّ ستة أمنيين أصيبوا بجروح خفيفة خلال المواجهات التي اعتقل في أعقابها تسعة أشخاص. وتوفي المصور الصحافي عبد الرزاق زُرقي بعد أن أضرم النار في نفسه احتجاجاً على البطالة وعلى الأوضاع المتردية في منطقة القصرين".

تكشف هذه الأحداث وأخرى غيرها في بلدان عربية ليست السودان وتونس سوى الخاصرة العربية الرخوة التي تكشف النقاب عن مجموعة مُتداعية من الأزمات، تنفجر بين الحين والآخر في شكل احتجاجات ومظاهرات تتحول من سلمية إلى صدامية، ثم تنتهي إما بقمع مثل تلك الانتفاضات، أو بحقنها بكميات متواصلة من المخدرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وفي كلتا الحالتين، نجد الأزمات تعود من جديد، وتدفع بالشارع العربي نحو الاحتجاجات. دوامة متكررة من الاحتقانات التي تنفجر وتخمد ثم تعود لتنفجر ثم تخمد... هذا المنظر العربي شهدناه يتكرر مرارًا خلال السنوات العشرين الأخيرة في أكثر من عاصمة عربية.

لم يستطع أي من تلك الانفجارات أن يصل إلى منتصف طريق المطالب التي رفعها، وقدم التضحيات من أجل نيلها.

العامل المشترك الذي تعبر عنه تلك الانفجارت هو الأزمة التي يرفض الحكم العربي الاعتراف بها، وحينما يضطر للاعتراف بها يصر على عدم مُعالجتها، على النحو السليم، وبشكل منطقي شاف.

نشير إلى تلك الانفجارات، دون توقف عند بلاد عربية أخرى، التي تجاوزت مرحلة الصدامات المتكررة، كي تصل إلى مستوى الحروب المستمرة التي طال عمر البعض منها عقدا من الزمان، والتي انتقلت من مجرد صدامات محلية محدودة الجغرافيا إلى حروب طاحنة تدار بالوكالة، وتقف وراءها قوى دولية عظمى، وإقليمية كبرى، ويدفع فواتيرها الكاملة، الباهظة الثمن، المواطن العربي، سواء بشكل مباشر في تلك البلدان التي تنفجر فيها تلك الأزمات أو تستعر فيها معارك تلك الحروب، أو بشكل غير مباشر حيث تكتوي بنيرانها بلدان عربية لها صلات جغرافية أو سكانية أو حتى اقتصادية بتلك البلدان "المريضة"، التي تعصف بها عناصر تلك الأزمة.

في اختصار، ومهما تعددت أشكال وصور وتعبيرات تلك الأزمات فهي في جوهرها تشكل مأزقا عميقا باتت تعاني منه كل دولة عربية على حدة، وتجتمع على معاناتها من ذلك المأزق على المستوى القومي الشامل. يغرس هذا المأزق جذوره عميقة في صلب البنيان الاقتصادي والسياسي العربي، ويترك بصماته السلبية البشعة الواضحة المعالم على مسارات الحياة في مجتمعاته المختلفة.

وإن كان هناك شبه إجماع على تبلور هذا المأزق العربي، وشبه إجماع آخر على المسببات التي تقف وراءه، فهناك غياب شبه تام، هو الآخر، على الطريق الصحيحة التي ينبغي أن تسلكها البلدان العربية، كي يتسنى لها وضع حد لتلك الأزمات كوسيلة للخروج من هذا المأزق.

ولو أمعنا النظر في برامج القوى التي حاولت التصدي للمشكلات من أجل الخروج من ذلك المأزق، فسوف نكتشف تقاربها، كي لا نذهب بعيداً فنقول بتطابقها. لكن ما ينقص تلك البرامج، وتفتقده تلك المشروعات هو ذلك القائد، شخصًا كان ذلك القائد أم منظمة، الذي يمتلك المقومات والكاريزما التي تضعه في مصاف القيادة التاريخية المؤهلة القادرة على عبور لجة بحر هذا المأزق.

في مرحلة التخلص من الاستعمار الأوروبي، توفرت تلك القيادة، فأنجزت مهمات تلك المرحلة، فطرد الاستعمار من دول عربية أدعى أنها جزء من حدوده السياسية كما تشهد على ذلك ثورات الجزائر والمغرب، لكن قطار إنجاز المهمات توقفت عجلاته عن السير على سكة حديد إنجاز مهمات ما بعد الاستقلال، بما في ذلك وضع لبنات البناء والتعمير.

المهمات هنا مختلفة، والمتطلبات غير مشابهة لتلك التي سبقتها إبان مرحلة التحرير من قبضة الاستعمار، ومن ثم فهي بحاجة إلى قيادات أخرى تتمتع بمتطلبات وسلوكيات هذه المرحلة التي تكتظ بالمغريات.

كل ذلك يؤكد أنه في غياب تلك القيادة القادرة على التصدي لمهمات ما بعد الاستقلال التي ولدت المأزق الممسك بتلابيب الأمة العربية، سوف تستمر الأزمات في انفجارها، التي لن تجديها المواجهات القمعية، ولن تضع حداً لها المخدرات المؤقتة.

في اختصار شديد العرب في أمس الحاجة لقيادة من طراز مختلف تنتشلهم من المأزق الحرج الذي يواجهونه، وهو مأزق مركب من عوامل داخلية في الأساس، تغذيها أخرى أجنبية.