التعليم.. من أجل فاعلية التعليم

 

أسماء عبدالله محمد الشبنوتية

في ظل التطورات العلمية المتزايدة أصبح من الضرورة بمكان أن يكون التعليم جزءًا من هذا التنامي المتزايد والمتسارع في شتى مجالات الحياة، فلم تعد الطرق التقليدية في تعلم العلوم والتي تعتمد على التلقين تجدي نفعا بعد أن صنعت هوة عميقة بين ما يتعلمه الطالب في المدرسة وبين ما يجده في حياته اليومية وعالمه الحقيقي، مما أدى الى إنتاج طالب مثقل بالمعارف التي لا يستطيع توظيفها في حياته اليومية، ويسعى الى تفريغها في ورقة الامتحان فقط لتتلاشى بعدها وتصبح في طي النسيان مع مرور الأيام وانتقاله من مرحلة الى أخرى.

وللحصول على جودة عالية من المعرفة العلمية، لابد من ربط تعلم الطلبة بالحياة اليومية ؛ ليكون تعلمهم جزءًا من حياتهم ومن ممارساتهم في البيئة التي يعيشون فيها، ولعل من أهم نتاجات هذا التوجه هو محو الأمية العلمية و تنمية طرق التفكير المختلفة لدى الطلبة، كالتفكير الناقد والتحليل والتفكير المنطقي، فيكتسبون مهارات تحليل ملاحظاتهم اليومية، ويسعون الى تقييم ما يدور حولهم من أحداث متسارعة، ويفسرون ما يدور حولهم من ظواهر طبيعية، مما ينمي لديهم التعلم الذاتي فيصبح الطالب منفتحًا على عالمه الخارجي، ويجعل تعلمه أسلوب حياة فعّال، فينشأ جيل يفكر ويبتكر ولا ينساق وراء ما تنتجه وسائل الاعلام الا بمنطق علمي، ويسعى الى تبرير ما يحدث حوله من ظواهر وفقا لأسس علمية وأدلة موثوقة، وهذا ما يحتاجه العالم اليوم وتناشد به معايير تعليم العلوم العالمية (NGSS) في ظل الثورة الصناعية في عالم التكنولوجيا وتعدد مصادر المعرفة وتداخلها.

ويقف خلف تحقيق ذلك بناء معلم متميز ومؤهل لا يحصر المعرفة بين دفتي كتاب مدرسي، يؤمن أن بين يديه أجيال يقف على عاتقها بناء مستقبل وطنه، لذا سعت العديد من الدول مثل أستراليا وهولندا وفنلندا والولايات المتحدة الأمريكية والتي ركزت في السابق على مجرد الحصول على ما يكفي من المعلمين للتدريس الى التأكد من جودة المعلم ليصبح ذلك محورا رئيسيا للسياسة التعليمية (OCED,2015) الوارد في (Ariffin,Bush,&Nordin, ,2018).

ولكن هذا لا يعني أن يقف المعلم مكتوف الأيدي بانتظار التأهيل الذي يمكّنه من ربط تعلم الطالب بالحياة اليومية، بل يسعى الى ذلك بنفسه وذلك بتطوير مهاراته في تدريس العلوم وبناء الأنشطة وأوراق العمل وتغيير طرق تقييمه لطلابه، واكتسابه مهارات إثارة تفكيرهم وتحفيزهم نحو تعلم العلوم، وخاصة أنها مادة حيوية تشكل واقع الحياة التي نعيشها، فيثير اهتمام الطلبة نحوها ويسعى الى اكسابهم التعلم ليكون مدى الحياة، ومن هذه المهارات مايلي:

إثارة الفضول وطرح الأسئلة

أن يشجع المعلم الطلبة على طرح الأسئلة، فالعلم يبدأ بسؤال، لذا على المعلم أن لا يستهين بأي سؤال يسأله الطالب، فغالبا ما تكون أسئلتهم نتاج فضول أو محاولة لربط ما يتم مشاهدته في عالمهم الحقيقي بما يتم طرحه داخل الحصة الدراسية، وقد يكون نتاج تناقضات أو وجود فجوة بين ما يتعلمه الطالب  وما يوجد في حياته اليومية، مما يدعوه لعدم القدرة على تحقيق التوافق بينهما، ولابد أن يكون المعلم موقنًا بذلك فلا يكبح لجام أسئلة طلابه بل يسعى الى تشجيعهم والكشف عن ما يدور في أذهانهم، وإثارة فضولهم من خلال تحقيق الترابط بين ما يطرحه من معرفة وبين ما يشاهده الطلاب في حياتهم اليومية، ويرى تشاين(Chine,2004) الوارد في (Phillips, Watkins,& Hammer,2018) أن تعزيز الفضول لدى الطلبة هو أحد الطرق لتطوير تعلمهم و جعلهم متعلمين حقيقين، فيسيرون نهج العلماء في حل المشكلات وتفسير الظواهر المختلفة،  وهو ما أكدت عليه معايير تعليم العلوم العالمية (NGSS) حول أهمية الممارسات العلمية وانخراط الطلبة في القيام بالعلم، فالعلم هو وسيلة اكتشاف العالم من حولنا ولا يتم ذلك الا بطرح الأسئلة والسعي للوصول الى الحلول والإجابة عليها Phillips, Watkins,& Hammer,2018)).

تطبيق التعلم القائم على السياق والمشكلة

وهو أحد أنواع التعلم لجعل التعلم أكثر واقعية وخاصة في المفاهيم المجردة التي غالبا ما يتساءل الطلبة ماذا نستفيد من تعلمها في حياتنا ؟ كبعض مفاهيم الفيزياء والكيمياء، هذا النوع من التعلم يشمل سياق أو مشكلات ويحدث عبر تجارب الحياة الحقيقة للطالب، وبذلك يعايش الطالب مفهوم معين من بيئته، ويوفر المعلم له أوراق عمل توجّه للقيام بالتعلم تحت إشرافه ثم يطلب من الطلبة عرض ما توصلوا اليه أمام زملائهم لتبادل المعرفة.

وقد أشارت دراسة مختلطة أجراها باران وسوزبيلر ((Baran & Sozbilir,2018 وتهدف الى دراسة أثر تطبيق التعلم القائم على السياق والمشكلة في الديناميكا الحرارية على التحصيل الدراسي للطلبة وميولهم واهتمامهم ودافعيتهم نحو الكيمياء، الى زيادة في تحصيل الطلبة واحتفاظهم بالمعرفة، وأيضا زيادة اهتمامهم نحو المادة، إضافة الى اكتساب الطلبة مهارات معرفية كالتحليل والتقييم وحل المشكلات الواقعية واستخدام التكنولوجيا ومهارات حياتية منها زيادة الثقة بالنفس والحوار مع الاخرين وإدارة الوقت.

دمج بيئات التعلم غير الرسمية في التعلم

وهي من الطرق التي أرى أنها تجعل الطالب يعايش بيئته وظواهر الحياة المختلفة وما يحيط به، و أقصد هنا بالبيئات غير الرسمية كل ما يمكن أن يكتسب منه الطالب معرفة ومهارة علمية، من أبسط البيئات وهي الطبيعة بما تحمله من تنوع كالمزارع والتربة وأماكن تربية الحيوانات ومجاري الأودية وما يعيش فيها من كائنات وتنمو فيها من نباتات وشواطئ البحار والسهول والجبال، الى المنشئة منها كالمدن والمصانع ومحطات انتاج الطاقة و المؤسسات الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص ومتاحف العلوم وغيرها، حيث أنها تعتبر مصادر ثرية للتعلم وجعل الطالب يمارس ما تعلمه ضمن عالمه الحقيقي، كما ويكتسب منها المعارف والحقائق في تطبيقاتٍ حياتية ملموسة، وبذلك يناقش ويسأل ويفكر ويحلل ويجد من يجيب عليه سواء كان معلما أو مرشدا خلال زيارته، فالمدارس لا يمكن لها أن تكون بمعزل عن ما يحيط بها فهي تضم داخلها أبناء المجتمع لتخرجهم للحياة فيه بشكل يحقق له طموحاته المستقبلية، ولابد أن يتظافر الجميع لتحقيق ذلك.

وحتى يستفيد المعلم من هذا النوع من التعلم لابد أن يكون قادرا على اعداد أوراق العمل المناسبة التي تحقق التعلم المنشود من هذه البيئات وأن يوجه طلابه الى ربط ما يشرحه في الحصص الدراسية بما يتم خلال زيارتهم، فيتعلمون ويكتسبون ويربطون تعلمهم بالواقع؛ حتى لا تتحول زيارتهم الى رحلة ترفيهية.

كما أنه يجب التركيز على تأهيل القائمين بدور المرشدين في المصانع والمتاحف العلمية على القيام بأدوارهم لطلاب المدارس بما يكسبهم تعلمًا حقيقيًا عند زيارتهم، فقد أوصت دراسة نوعية أجراها شابي وأشرف وتال (ShabyAssaraf,& Tal,2018 ) تهدف الى تحليل التفاعلات بين الطلاب ومرشدو المتاحف والمعروضات في زيارات المدارس لمتاحف العلوم، الى الأخذ بالاعتبار عند توظيف مشرفي المتاحف الدور التعليمي الذي يقومون به والمكاسب والخبرات التي يضيفونها للطلبة، وتنفيذ الدورات المهنية لهم من أجل تحقيق ذلك.

الاهتمام بمبادرات STEM في تعلم العلوم

يتجه العالم اليوم الى المهن المرتبطة بالعلوم والتكنولوجيا والهندسة STEM، ولا يمكن الوصول الى ذلك الا من خلال ربط تعلم الطلبة بالحياة الواقعية التي يعيشونها، واستثمار معرفتهم العلمية في تطبيقات حياتهم المختلفة، وتطوير مهاراتهم في حل المشكلات بطريقة ذكية ومبتكرة.

ويمكن تحقيق ذلك من خلال إتاحة فرص مجتمعية مرتبطة بمبادرات STEM في حصص العلوم الدراسية، فقد قدم فيستنج وبوتيستا وديكمن

Fuesting,Bautista,Diekman,&,2018)) نموذج لدرس يدمج مفاهيم الايجابية (العلم يساعد الآخرين ويعطي للمجتمع) ومفاهيم التعاون (العلم ينطوي على العمل مع الآخرين)، حيث عمل تلاميذ الصف العاشر في مجموعات صغيرة لإيجاد حلول لانقطاع التيار الكهربائي الذي دمر بورتوريكو في أعقاب إعصار ماريا في سبتمبر 2017، وسمحت الأنشطة التي قام بها الطلاب بالمشاركة في الممارسات العلمية والهندسية الهامة مثل تحديد المشاكل، وتطوير النماذج، وتخطيط وتنفيذ الاستكشافات، وتفسير البيانات، وإيصال المعلومات العلمية إلى الأقران. 

وهي مهارات لا يحققها التعلم في الغرف الدراسية بعيدًا عن حياة الطالب اليومية، وشعوره بالمشكلات البيئية والاجتماعية وما يدور حوله من أحداث والا أصبح التعليم مخزون معرفي فقط مصيره الزوال بأسرع وقت ممكن.

توظيف التكنولوجيا

أصبحت التكنولوجيا تغزو حياتنا بشكل ملحوظ ومتسارع،وسعت المدارس الى إستخدام أفضل الأجهزة الالكترونية لتواكب هذا التطور وتوظفها في التدريس، ولكن كيف يمكننا أن نستفيد منها لنقدم المعرفة العلمية بما يحقق ارتباط التعلم بواقع حياة الطالب وعالمه الحقيقي، وقدرته على تفسير وتحليل ما يحدث في ممارسات حياته اليومية؟ 

وهنا سأذكر احدى الطرق للإجابة على هذا السؤال، وهي توظيف نماذج المحاكاة في تعلم العلوم، وهذه الطريقة مفيدة في دراسة الظواهر التي يصعب الوصول اليها وتخيلها أو إدراكها داخل حدود الفصل الدراسي، ولكن نلاحظ تأثيرها على ما يحدث حولنا من ظواهر، ومثال على ذلك حركة الالكترونات داخل مجال مغناطيسي مثلاً، و ارتباط الذرات وحركة الصفائح التكتونية في باطن الأرض، ويرى راند و ويلنسكي ( Rand,& Wilensky,2015 ) الواردون في ((Mutch-Jonse,Gasca,Pallant,and Lee,2018 أن نماذج المحاكاة التفاعلية  تقدم نظرة أكثر واقعية لكيفية عمل العلماء وبالتالي تعزز فهم الطلبة للأفكار الأساسية لعمليات العلوم.

طرق التقويم 

إن أغلب طرق التقويم المستخدمة تجبر الطالب على التركيز في إستدعاء الحقائق العلمية والمعرفة بشكل لا يستدعي معه البحث عن التطبيقات الحياتية لها، مما يؤثر سلبا على الطالب ويكون سببا لإنتهاء المعرفة مجرد انتهاء وقت الاختبار، فيفقد الطالب ما تعلمه ويصبح غير قادر على توظيفه في حياته كلما كبر وانتقل الى مراحل أخرى، وكثيرا ما يكتشف المعلم ذلك عندما يسأل الطلبة عن معلومات تم دراستها في صفوف سابقة، لذا لابد أن ينتقل نهج التقويم من النهج الإلزامية التي تؤكد على الحقائق المنفصلة الى النهج المستجيبة التي توفر للطلاب المشاركة في التحقيقات العلمية والأدلة وتحقيق عمق الأفكار الأساسية المقدمة ( NRC,2011) الوارد في (Clinchot et al,2017 ).

ومن الطرق المستخدمة في التقويم أيضا المهام المفتوحة، حيث قدم ولدر ولامب وبولمان(Weidler-Lewis,Lamb,Polman,2018) نموذجا لذلك تَمثّل في السماح للطلبة باختيار موضوع ذا مغزى ومرتبط بحياتهم اليومية المتعلقة بدروس الكيمياء وتصميمها على شكل منظم بصري ( أنفوجرافيك) ؛ لعرضه في معرض يقيمه الطلبة ويحضره معلميهم وأولياء أمورهم وزملائهم، وقد اختار بعض الطلاب موضوع التركيب الكيميائي لمعجون الأسنان، واختار أخرون موضوع المواد الكيميائية التي تؤثر على النوم مثل الميلاتونين والكافيين.

ومن خلال هذه الطرق المتعددة والتعلم الذاتي والتطوير المهني يمكن انتاج دليل لمعلم العلوم يساعده في الطرق التي يستخدمها في ربط التعلم بواقع حياة الطالب ليصبح التعليم أكثر فاعلية، ويكون مرجعًا له في مختلف مناهج العلوم حيث يشمل الاستراتيجيات التي يستخدمها، والمهارات التي يحتاجها لإدارة تعلم الطلبة وإثارة تفكيرهم، كما ويضم أوراق العمل المناسبة التي تشجعهم على التأمل في حياتهم اليومية والظواهر التي تحيط بهم، إضافة الى طرق التقويم وأساليبه التي يستخدمها والتي تشجع الطلبة على تكوين فكر علمي مرتبط بالتطبيقات الحياتية، إضافة الى وسائل التكنولوجيا الحديثة التي تساعده في تحقيق ذلك.

 

تعليق عبر الفيس بوك