تجربة الشعر وشعر التجربة:

قراءة في "هلوسات خارج التغطية " لـنور الدين ضرار (3)



الشريف ايت البشير| المغرب

    وعليه، فإن أسئلة تجد شرعية انبثاقها جراء قراءة ديوان ضرار: الهلوسات.. مثل: ألا تكون الرغبة الجامحة في ابتعاث روح الإنسانية في الوجود حالة من الهذيان والجنون؟ ألا يفضي الإفراط في حب المدينة/ الذاكرة إلى الهلوسة؟ أي إلى إصدار كلام أو تأسيس خطاب ليس بالضرورة متوجّها إلى العقل، وإنما إلى الوجدان، إلى الإحساس.. خطاب يجمع بطريقة مدهشة بين التخييل والواقع، بين اللين والقسوة، بين المدح والهجاء، بين الإخفاء والفضح، بين الرضى والسخط.. بين البّاطوس واللوغوس؟
     وعلى غير عادة كتابة الشعر، يبثّ ضرار روح الجديد في تجربته. فإذا كان عادة يتعلق الأمر بنوعين من النصوص؛ النص ـ الأثر، والنص ـ الصدى، فإن الشاعر هنا يضعّف النوع الثاني في إطار حالة من تشذير شجرته، حين الصدى يصبح انتواء وإعلانا مستقلين اصطلح عليهما ب " خارج النص"، التابع مباشرة للإهداء حيث المجاز يركب الكناية عن التجلي في الوجود ليشهد لحظة الاحتفاء بمصدره المحدد في " سيدة الأفياء الوارفة" المتدفقة في تضعيف أنوثتها وفي خلقها " المنارات" المضيئة لرحاب القلب.. فيه اندساس خلف تمجيد الأنثى باعتبارها مصدرا للوجود وسببا أبديا في تخلّقه على عادة مفكّري الاختلاف والأنتروبولوجيا.
    في عتبة قصيدة " سنوبيا الكائن الأوحد" ، وهي بالمناسبة العتبة الأولى في الديوان ـ ص8 ـ يمدح الشاعر ضرار العمى على عادة أعمى الأرجنتين وأميغوها: بورخيس، العمى الذي ورّثه الافتخار بالقراءة: " فليفخر الآخرون بالصفحات التي كتبوا، أما أنا فأفخر بتلك التي قرأت " (12). للعمى، إذن،  هباته حددت في الليل والقصيدة، باعتبارهما إدراكا للذات وإبصارا بالنفس. وكأنها حالة من تحقيق دعوة سقراط إلى معرفة النفس بنيويا أي بالنفس ومن منطلق الذات، لأن " من عرف نفسه تألّه ". مع ضرار أيضا للعمى أفضاله محددة في بحثه عن مفارقات العالم وتناقضاته أي سكيزوفرينيته، والتي تجعله واضحا في الموقف، متمترسا وهو يعترش تلك الأبهة المترعة على الحكمة. حكمة التحدي المنوطة بأونطيّتها... والمتمسكة بالموقع الذي تحتله الذات بصيغة مسكونة بالسخرية الجارفة: " أنا الأعمى وأنتم المبصرون ". (1) ص 8.
     مرة أخرى، لا يبدأ الشاعر بالوضوح، وإنما بالالتباس، حينما لا يتعلق الأمر، على الأقل، في (هاكم) بالفعلي فقط، ولا بالاسمي أيضا، وإنما بما يجمع بينهما، للإشارة إلى التحول الذي يقع على الذات حين تضيف إليها إكسير الحياة، أي حالة التحول الدقيقة والرقيقة التي تحصل مع الخمرة، كأنها الصفة والحالة، الدينامية والثبات، السفر والإقامة .. لقد كان يشتهيها، يمجّدها ويتشبّث بها إلى حدّ العبادة، بها جعل ليله ممتدّا، كأنه ودّ لو يستعيد لحظة ليلى الأخيلية متيقّظا ومستيقظا، متوفّزا ومتنبّها، لتكون حياته قبض يده وصناعتها، مادامت إما أن تعاش أو أن لا تعاش، " فنحن لنا كل الموت لننام" (13).. أما الآن، وبعد أن تكالبت الأمراض على الجسد وسكنته العلل، أرادها للأصفياء وللندامى.. يستمرّ معهم غيبا في جلسات الحياة. لا تكون هنا الخمرة حاضرة إلا بالمعنى الرمزي، معادلها القصيدة، لهذا كانت الهبة شعرا في فتنة المساء الآيل إلى دفء الروح في تلك الآفاق المترعة على اللجين:
         هاكم لآخر العمر
         دناني المشتهاة
         على مصطبّة المساء..
         أما أنا،
            فكل أعماري
            استنفذتها
                 في صبوة
                 على حافة السماء.. (1) ص 10.
    هكذا فالعمر الذي يعيشه الشاعر، رغم الخسارات، هو في حوزته، هو ملك يده، يهندسه بإرادته المخصوصة.. ويذهب به إلى الآتي، إلى الفردوس حيث الشراب هناك متعة، في هندسة " جغرافية الملذات" استيهاما، (14)، في استعادة بليغة وغامضة للخطيئة الأولى، حيث آدم يخرق المحرّم ويكتشف السر في الخلق كان الله قد أودعه في " خاتم الأختام".. وأراد أن يحرمه الإنسان كي "يزحزحه" عن موقع المطلقية واللانهائي إلى موقع المحدد والفاني.. لكن المنع كان حطب الرغبة الذي يزيدها اشتعالا.. متشبّثا، آدم، بطفولته، ومعلنا عن فداحة الميتافيزيقي، مسؤولا عن تصرفاته، متحمّلا عواقبها ومعلنا بامتلاء الرئة في لحظة يمتزج فيه الصوت بالصوت ليصبح شاعرنا معلقا من الهدب في هذه اللحظة الفارقة والبرزخية، بين هيولى الجموح وهندسة الفراسخ: ( أما أنا / فكل أعماري/ استنفذتها / في صبوة / على حافّة السماء..).
      ومن أجل تأثيث الوجود الخاص بما يضمن له انسجامه، أي من أجل تحويل الخسارات إلى انتصار، يجعل الشاعر ضرار من الليل توأمه وملاذه ومعادله الرمزي، فيسحبه على كل تفاصيل الحياة وأزمنتها، فلا يعود الأمر متعلقا بدورة في الزمن وإنما حالة معمّمة؛ فالليل يكتنف النهار أيضا:
        الليل شبيهي،
        وإن أدركني على أطراف الأرض
       ألق النهار..
      طرقي جدائل في مهبّ التيه
      وعيناي نجمتان،
      كغبش الوقت
      أنضح بالعتمة قيد الاشتعال
      وأضجّ حدّ البوح
     بالمخفي من الأسرار ...
     أنا عثرة التاريخ
    وخيبة الثورات،
    [.............]. (1) ص15.
     هكذا يجعل الشاعر من الليل ردفه في الوجود، في نزعة تأليهية ناجزة محتفرة غنائية القصيدة، كما يجعل  من التيه وغبش الوقت والعتمة والمخفي والعثرة والخيبة.. كيانات تعادله. ومعلوم أن الليل يرتبط في إحدى صفاته بالحجاب، خاصية تضمن له بعد الأنثوية والميتافيزيقية في الآن نفسه، فكلاهما مضيء، رائيهما فقط هو الذي يكون معتما، لذا جاءت توصية محمود درويش مفعمة بالسخرية: (لا تكن معتما بعد نهديّ). وعليه، فإن الليل غامض يستدعي السؤال المفعم بالحيرة الصوفية وشطحها: " ما يكون الليل يا شيخي؟" (1) ص56، وأن يكون الليل معادلا رمزيا للشاعر معناه ضمان الأنثوية له. بذلك فالشاعر ضرار أنثى كما القصيدة، لذا يأتي منطق التعويل عليه، لأنّ " كل ما لا يؤنّث لا يعوّل عليه "، حسب توصيف الشيخ الأكبر صاحب الفتوحات. وبالتالي فإن الليل مضيء لا يحتاج إلى النهار كي يمنحه هذه الصفة، لسبب بسيط هو فاقدها. إن النهار أعمى. وشعر ضرار مضيء من شدة العتمة في الرؤية إلى العالم، ومن القدرة على الاستبطان العاهل بالنزعة السقراطية.

 

تعليق عبر الفيس بوك