غِيدٌ غجريات، وكفوف ناعمة البياض


مراوان المخلافي | اليمن

بتكسر ودلال - كأوتار معزفٍ مرخيٍ- كن في وسط الزحام سائرات يقطعن شارعاً مكتظاً بالمارة، ويخترقنه مثقلاتٌ - وهن الثلاث - بصباغ الغيد، ومزهوات بثياب الحسان الجيد، مررن وخلفهن سهامٌ من عيون القوم يحدقون بها - رمياً بالنظرات - نحو مواطن الدلال والتغنج بوغادة ولئمٍ وزيغ، وصوت لهم يجلجل في أحدهم "ياغارتاه" والمبسم المليح، وتسمرت من آخرين عيونهم محملقين و"مبصبصين" يستدرون نشوة ناظر، ومتعة فاحص قد يدرك ويرى-متخيلاً دون أن ينظر -قداً مياساً ، وخداً مورداً ، وثغراً يعض عناباً رحيقه  من رضاب السكر.
سائق باص أراد مستهتراً أن يلفت الأنظار نحوه من العابرات بدوسه على مكابح باصه فجأة قبالتهن ما استدعاهن وبسرعة الريح لأن يفتحن اللسان بوجهه مقدار ثلاثة أذرع -سباً وشتماً واحتقاراً- لصنيعه في حق نسوان كما قلن له، ولم يتكلم بأكثر من قوله بغضب أحمر تطاير الشرر منه: "ياغجريات إجزعين من قدامي".
انتهي الموقف وذهبن لسبيل حالهم للرصيف الآخر من الشارع كما انتوين ذلك ، وبعضنا في ذهول من الموقف الذي حصل أمامنا ونشاهده من الشق الأخر للطريق، لكن ولحد الآن والموقف لم ينتهي بعد ، فماهي إلا لحظات وعجوز تود قطع الشارع مشياً على الأقدام كانت متثاقلة أعياها عجزها وسنها، ولم تلبث الغيد اللواتي ما إن مررن بها حتى توجهن. لها دون تفكير ، وأعدن قطع الشارع مرة أخرى ممسكات- هذه المرة- بيد هذه العجوز التي ضاعت بين زحام الناس ولم يأبهوا ليعبروا بها نحو الرصيف الآخر، وتكرر المشهد مرة أخرى وذات القوم مازالوا يشاهدون الموقف، لكن هذه المره بوجه آخر، وبمنطق غير السابق، ونظرة مغايرة.
إحداهن وباليد التي أمسكت بها ذراع العجوز نزعت كفها ليحسر عن يد بيضاء بفعلها ، وناعمة الدفئ بنبلها وصنيعها ، ويحدث ذلك - لربما - في لحظة يظن ناس من القوم بهؤلاء النسوة بعض الظنون التي ستير في مذاهب قد تكون آثمة ومتجنية في حق غيد من النواعم صنعن معروفاً لم يكن الرجال أوبعضهم عند مستواه ، وبقدر مسئوليته كما تمثل واقعاً متجسداً في هؤلاء القوارير .
 كنت -ومعي الكثير- ارقب المشهد -كغيري- بعقل منفتح ما كاد ينتهي إلا وحالة من التقدير انتابتني لهذا المعروف والصنيع الجميل أياً كان صانعه ، وهذه الأيادي البيضاء بفعلها التي امتدت لإنسان ضعيف ربما سيدعو لها بظهر غيب تصل بها حبل ودها بخالقها.
كم قرأنا وبمرور غافل غير عابئ عن "بغي بني إسرائيل " المرأة التي أدخلها الله الجنة لسقيها كلباً كان يلهث عطشاً من حرارة القيظ، وتعرضه لشمس النهار الحارقة، مشهد ما اعتورت فيه سحائب الخير وإن جاء من بغي، بل أفعم الموقف بكل تجليات الرحمة، بخلاف عابدة انعدم الشعور لديها بحبسها لهرة تركتها تغالب لأواء الجوع حتى ماتت ، مستكثرة عليها خشاشاً من الأرض تجود به وينمو بأطراف مترامية النظر أينما يممت وجهاً وجدته في متناول اليد.
وأبداً أبداً لست في سياقٍ أقلل فيه من الملتزمين ، أو أنني أتناولهم بشيئ من التحقير كمتدينين، وأمجد تبجيلاً من الآخرين ممن هم سوى ذلك ، فقط حياتنا ياسادة بحاجة لأن نكون إنسانيون وإن بقلوب الغيد الغجريات، فمعدننا الحقيقي ما نملكه من قيم مضافة في حياتنا.

 

تعليق عبر الفيس بوك