عبيدلي العبيدلي
بخلاف غيره من السلع ذات الأهمية الإستراتيجية على المستوى الدولي، يعتبر النفط الأكثر تأثرا بمعادلات التوازن الدولي، والتحالفات المنبثقة عنها في الساحة الدولية. ومن ثمَّ فما نشهده من تأرجُّح في أسعار النفط بين هبوط وارتفاع، والذي يبدو في نظر البعض أنه مُجرَّد خضوع لقوانين العرض والطلب التقليدية، إنما هو -في جوهره- الجزء الصغير الذي يبدو من جبل العوامل التي تتحكم في ذلك التذبذب؛ حيث تتضافر مجموعة من العوامل الأخرى، ليست قوانين السوق بعيدة عنها.
وفي البدء، لا بد من الإجابة عن سؤال في غاية الأهمية؛ وهو: مَن الطرف الأساسي المتحكِّم في أسعار النفط في أسواقه العالمية؟
تجيب عن هذا السؤال استناجات دراسة قامت بها كلية الدراسات العليا للإدارة في جامعة هارفارد، والتي تقول: السيطرة على سعر النفط وكمية إنتاجه هما من ركائز الأمن القومي الأمريكي. إذن كمية الإنتاج والسعر من ركائز الأمن القومي الأمريكي، ومن البديهي أن الولايات المتحدة لا تجيره إلى أحد. وأن قراري السعر وكمية الإنتاج هما أمريكيان 100%".
إذا ربطنا بين هذه الخلاصة وبين تأثير النفط على السياسة الخارجية الأمريكية، فسوف نكتشف أن النفط يتحكم كثيرا في تحديد الأطر العامة التي ترسم معالم تلك السياسة. يدلل على ذلك تلك الدراسة السرية التي قامت بها وزارة الخارجية الأمريكية في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وجاء فيها: "إنَّ سياستنا يجب أن تنحو نحو هبوط أسعار النفط 30-40 بالمئة؛ وذلك لمعافاة الاقتصاد الأمريكي... وفي برقية عاجلة من وزارة الخارجية إلى سفارتها في لندن مشفّرَة سري جدًّا، جاء فيها إنَّ وزير الخارجية مهتم جدًّا بدراسة سريعة عن تأثير هبوط كبير في أسعار البترول". حملت تلك البرقية الرقم المشفر 081715، وكانت مرسلة في شهر مارس 1985.
لم تكن الصدفة وحدها إذا هي التي أرغمت السوق على خفض أسعار النفط بشكل مباشر "من معدل 26 دولار للبرميل في شتاء 1985 إلى اقل من 10 دولار للبرميل في العام 1986".
وإذا حَصرنا ذلك في الصراع بين أكبر دولتين؛ وهما: الولايات المتحدة وروسيا، فيمكن العودة إلى ذلك الاستفتاء الشعبي الذي أجرته مؤسسة بلومبيرج (Bloomberg)الأمريكية، وجاءت نتيجته "أن 15 من أصل 27 تم سؤالهم عن سعر النفط الذي سيزلزل الاقتصاد الروسي؛ فكانت إجابتهم أن سعر الزلزال هو 30$ للبرميل وأن روسيا غير مستعدة ولا مؤهلة لاحتمال هذه الصدمة الثانية! اعتقد هؤلاء أنَّ هذا السعر سوف يهز النظام المالي والبنكي، وسوف يعرض الروبل إلى هبوط حاد آخر، وهكذا قررت أمريكا هبوط الأسعار إلى 30 دولاراً". ولأولئك الذين لا يكفون على إلقاء مسؤولية التحكم في أسعار النفط على عاتق منظمة "الأوبك"، وحدهما يمكن الرد على ذلك الاتهام بأن إنتاج مجموع دول "أوبك لا يتجاوز اليوم 35% من الإنتاج العالمي، في حين تصل حصة الولايات المتحدة (حدها) إلى 10% منه". واليوم يبلغ "إجمالي الإنتاج العالمي من النفط حوالي 92 مليون برميل يوميا، حيث تنتج دول الأوبك حوالي 32 مليون برميل، والباقي أي حوالي 60 مليون برميل تنتجها دول العالم الأخرى المنتجة والمصدرة للنفط". وهذا يعني أن نسبة حصة أوبك ما تزال تراوح عند 35%.
ولمن يجادل في إلقاء تبعة تحديد أسعار النفط على دول الأوبك تكفي الإشارة إلى أنه حتى "منتصف القرن العشرين كانت تجارة النفط العالمية تقتصر على سبع شركات نفط عالمية عملاقة التى كانت تطلق عليها اسم (الأخوات السبع)، وهى التى كانت تتحكم بشكل رئيسى فى الأسعار، وهذا يعني أن الأسعار التى يتحكم بها المضاربات اليومية فى بورصات النفط لم يكن لقوى العرض والطلب تأثير كبير على الأسعار لأن (الأخوات السبع)، هى المسيطرة بشكل كامل على سوق النفط العالمي".
ومن المتوقع والعالم مقبل على مرحلة متأزمة من العلاقات الأمريكية الروسية أن تشهد سوق النفط تذبذبات "غير طبيعية" في أسعارها. تنذر بهبوب رياح ذلك التأرجح تلك "التصريحات الأخيرة التي أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عبر موقع التدوينات الصغيرة؛ حيث اتهم منظمة أوبك بالتلاعب في الأسعار، مطالبا إياهم بخفضها فورا". ويربط الكثيرون بين أوضاع سوق النفط العالمية والخلاف الناشب بين موسكو وواشنطن على الأراضي السورية، والتي لا تكف واشنطن وموسكو على تصعيدها لأسباب أخرى ليس التأثير على أسعار النفط سوى واحدة مهمة منها.
وبين يدي واشنطن ثلاث أوراق رئيسة تستطيع، متى ما أرادت، اللجوء إلى واحدة أو أكثر منها من أجل التحكم في أسعار النفط، الأولى والثانية هما ذلك "المخزون الإستراتيجى ومنصات الحفر؛ حيث إنه كلما انخفض مخزونات النفط وعدد الحفارات التى تتملكها ارتفعت الأسعار نظرا إلى إقبال الولايات المتحدة على الشراء وعندما تزداد المخزونات والحفارات تهبط الأسعار إلى أدنى مستوى لها". أما الثالثة، والتي لم تتردد الولايات المتحدة في إشهارها فهي "الغاز الصخرى والذى تهدِّد الولايات المتحدة بالتوجه إلى استخراجه فى حالة ارتفاع الأسعار عن السعر المناسب لها؛ حيث تبلغ تكلفة استخراج الغاز الصخرى حوالى 60 دولارا بينما اذا ارتفع النفط التقليدى عن ذلك 60 دولارا سترى أمريكا أنه من الأجدى الاعتماد على الغاز الصخرى، وهو ما تخشاه الدول المنتجة بأن تفقد أكبر سوق مستهلك لها".
باختصار، وبغض النظر عن وجود عوامل أخرى ليست سياسية، بل طبيعية مثل الكوارث التي تمارس أيضا دورا، وإن كان محدودا نسبيا في التأثير على أسواق النفط، تبقى الولايات المتحدة، وفي حالات معينة صديقاتها من الدول الأوروبية، الدولة الأكثر قدرة على التلاعب بأسعار النفطبما يخدم سياساتها الخارجية، وينفع اقتصادها الوطني.
لكن ما هو أهم من ذلك كله، انه وإزاء هذه الأنانية المتناهية في الدفاع عن المصالح الذاتية، بعد أن تضرب عرض الحائط مصالح الدول الأخرى، بمن فيها الدول المنتجة للنفط، ما هو موقف الدول الأعضاء في منظمة "أوبك"، وفي القلب منهم الدول العربية المصدرة للنفط؟