في حضرة البردوني:

من ينفض الغبار عن الأعراس؟ (2 - 2)

 


أ.د يوسف حطيني – أديب وناقد فلسطيني – جامعة الإمارات


لذلك ليس غريباً أن يمجد الشاعر وقفة الشعب اليمني الخالدة في ثورته ضد السلطة الإمامية ، وكيف لا يكون له ذلك ؟ وقد كان واحداً من أولئك الشعراء الذين آمنوا بدور الشعر في توعية الجماهير وتحريضها ، وفي مباركتها حين تنخرط في الثورة:
رفعْنا الرؤوس كـأنّ النجـو                    مَ تخـرّ لأهدابـنا سُـجَّدا
فضجّ الذئاب : من الطافرون ؟               وكيف؟ ومن أيقظ الهُجّدا ؟
وكيف اسـتثار علينا القطيع ؟                 ومن ذا هداه ؟وكيف اهتدى

إنها الفرحة الكبيرة التي جعلت شمس اليمن تشرق من جديد في ثورة 26أيلول ،إذ توثّبَ روح الوطن، واستطاع اليمنيون أن يقولوا كلمتهم  في وجه الماضي . وماذا يمتلك الشاعر في حضرة الثورة المباركة إلا أن يغني لليمن الثائر:  
لن يستكين و لن يستسلم الوطنُ              توثّب الروح فيه وانتخى البدنُ
ها نحن ثرنا على إذعاننا وعـلى            نفوسنا واستثارت أمُّنا اليمنُ

وبعد أن تنتصر الثورة لا يدفن الشاعر رأسه في الرمال ويحاسب الثورة على أخطائها ، ويفضح الغش والرشوة و المحسوبيات والخضوع للنفوذ الأجنبي ، فيلوم أولئك الحكام الذين أمّرهم الشعب فأمّروا الأغراب عليهم وعلى الشعب أيضاً ، فهو هنا يرفض في قصيدة قديمة نسبياً _ ولكنها نبوئية_ سيطرة الولايات المتحدة على مقدرات الشعوب العربية ، وها هو ذا يقول في لهجة ساخرة :
نـحـن أحفـاد عنتـره                    نـحـن أولاد حــيدره
أمـراءٌ …  وفـوقـنـا                   عـيـن "ريـجن" مؤمَّره
نـحن للمـعـتدي يـدٌ                    وعـلـى الشـعب مجزره

وهناك ملاحظة واضحة تماماً في شعر البردوني، وهي حضور البعد القومي في دواوين الشاعر ، يلمح القارئ صورة نضال الشعب العربي الفلسطيني ، وتوق الجماهير العربية للوحدة العربية ، ودعوة الشعب العربي للدفاع عن عروبة أقطارها ، ففي قصيدة عن فلسطين يوجه الشاعر رسالة مفتوحة إلى المواطن العربي في كل مكان ، فيقول:       
يا أخي يا بن الفدى فيمَ التمادي؟           و فلسـطينُ تنـادي .. وتنـادي
ضَجّـتِ الـمعركة الحمْرا فقُم               نلتهبْ .. فالنور من نار الـجهادِ

ويعبر الشاعر عن قوميته وانتمائه للعروبة ، وذلك من خلال مباركته الوحدةَ المجيدةَ التي قامت بين سورية ومصر ، لتكون نموذجاً يحتذى به للقوى التقدمية العربية على امتداد الوطن العربي ، فيصور هذه الوحدة لقاءَ أحبة وأشقاء ، فيقول:
إنّا توحَّدْنا هـوىً و مصائـراً                 وتلاقـتِ الأحبابُ بالأحبابِ
لاقى الشقيقُ شقيقَهُ فاسألهمـا                كيف التلاقي بعد طول غيابِ
*    *    *    *
من جهة أخرى فإن المرء يجد في شعر هذا الرجل لغة تختلف عما ألفه عند الآخرين، لغة تفيد من التراث إلى أبعد الحدود ، وتفيد من المعاصرة ، يمتلئ شعره بالألفاظ القاموسية ، والألفاظ القريبة من متناول الوجدان الشعبي، لا يهمه كثيراً أن تنتمي هذه المفردة إلى حقل اللغة الفصحى، أو اللهجة العامية ما دامت قادرة على أن تحمل دلالاتها المرجوة ، وقد جعلت هذه اللغة شعر البردوني إشكالية حار فيها الكثيرون ، وهذا مثال على استخدام اللهجة العامية ، بل والكلمات الأجنبية أحياناً من أجل تأدية المعنى الذي يدين، هاهنا ، المؤامرة المعيشية التي تحاك ضد المواطن البسيط :                                                                                      
نكـظّ السـوق بالـويسكي                    ونطـوي صفقـة الحنـطهْ
فنـلـهي كـل صـعلـوكٍ                     بسـعر الـخبز والشـطّهْ

ولقد استطاعت هذه اللغة ، وما تحمله من السخرية ، أن تعطي شعره نكهة محببة ، مما يساعد على الوصول بشكل أسرع إلى قلب المتلقي ، الذي يتعطش إلى سماع السخرية التي تلذع أشخاصاً يتمنى ، في قرارته ، أن يكون هو نفسه الساخر منهم ، مما يجعل البردوني حاملاً لدواخل الناس الذين أحبوه لذلك السبب. وفي المقطع التالي يسخر الشاعر من الذين يدّعون الشجاعة ، بينما هم غارقون في الملذات ، ويتعنترون في زمن تسقط فيه العنتريات:        
له عبـلة في كل شـبر و فسـحةٍ                  ومـا قـال إني عنتـر أو تعنـترا
و لا كان دلال المنايـا حصـانـه             ولاباع في سوق الدعاوي ولا اشترى

وإذا كان النسق السابق قد أفاد إفادة واضحة من شعر عنترة و حصانه الذي خاض غمار الحرب "وشرى وباعا" فإن النسق الشعري التالي يفيد من بائية أبي تمام الشهيرة ،ويغير حركة الرويّ ،ولكنه يحافظ على البحر ويستثمر المفردات مما يرسخ اهتمامه بأبي تمام و بالتراث العربي عموماً:
ما أصدق السيف إن لم ينضه الكذبُ              وأكذب السيف إن لم يصدق الغضبُ
بيض الصـفائح أهدى حين تحملها                أيـد إذا غلـبت يعلـو بها الغلبُ

ويستثمر الشاعر روافع الشعر الموسيقية المختلفة من مفردات مناسبة وبحور تتنوع طولاً وقصراً، وتصريع كثيراً ما يعتمد عليه في قصائده ، وفي الأبيات التالية تتضافر كل هذه الاشياء لتقول الدلالة التي يبحث عنها الشاعر :
كان الدجى يمتطي وجهي و يرتحلُ              وكنت في أغنيات الصـمت أغتسلُ
وكان يغـزل أطـيافاً و ينقضها                     وكنت والصمت و الأشباح نقتتل

وقد كان الشاعر في أحيان غير قليلة يستخدم قوافٍ صعبة ،وكأنه في تحدٍّ مع عبقريته الشعرية، وربما مع الآخرين ، ليثبت تفوقه وتفرده ، وهذا مجرّد مثال:
أيّ ريـح جـرت بـه                 أيـّـهـا زاول الـرّفــَثْ
يا زفـاف الغـبار : من             أَوْلَدَ الريـح ؟مـن حـرثْ؟
ضـاجعـتْ ثَمّ نفـسها               بـعضُـها بـعضَـها طمثْ

حقاً ..لقد أسلمتك القصائد قيادها، أيها الشاعر الكبير، ولكن القدر الذي قال كلمته حين مضيت، لايسلس قياده لأحد، ويبقى عزاؤنا الكبير، في حضرة غيابك الكبير، نابعاً من وجود أؤلئك الشعراء الذين لا زالوا يحملون اسم اليمن و العروبة، ويسعون نحو الحقيقة ، وهم يقسمون على أن يبقى اليمن سعيداً على الرغم من فداحة هذا الغياب.
                                    

 

تعليق عبر الفيس بوك