تواضع المبدع.. حالة من الإبداع أخرى


مروان المخلافي | اليمن

 الإهداء: إلى ذلك الإنسان المبدع النبيل.
 يعلم الله مقدار ذلك الشعور البهيج الذي يحوطنا من جميع أركاننا حين تفاجئنا الحياة الأدبية أحياناً بمبدعين أفذاذاً تتقاصر دونهم مقامات الرفعة والسمو، ولا تجد بداً من أن تنحني الهامات لهم إعظاماً واعتزازاً بالمستوى الرفيع الذي عرفوا به في تواضعهم،  فتعتريك معه حالة من الذهول في بعض الأحيان ، أجمل ما فيها أن يسترعيك معها شعور صادق بمدى تأثرهم بتلك القيم والمثل التي ينطلقون منها في صناعتهم لأدبهم ، واكتنافهم لمكتنزات في أرواحهم تتجلى بالتوازي مع روح إبداعهم وقدرتهم على إشاعة جو من اللذة حين يتكلم شعرهم، وينطق بالنبل  وجدانهم، وجدنا في مقالنا هذا من المناسب القول بأن "تواضع المبدع، حالة من الإبداع أخرى".
وما سبق حال عشته مع إنسان نبيل جمعتني به الصدفة ، وساقتني الأقدار لأن أفترش بساط التأمل عند بابه ، وأنيخ الركاب في رحابه ،وعلى تراب أدبه ، فوجدنا روح إنسان أذاب فؤاده رهبة الموقف على ما بيننا من معرفة منعدمة تماماً ، لكنه خلق العظام حين يحتويك من أول موقف ، ويستوعبك بأجمل لقاء ، فيصنع من العالم الافتراضي واقعاً رحباً تعيشه بإحساس حقيقي يحرك فيك إنسانك المنتمي له. وحقيقة فإنه وعلى ملاحظة أبديناها قد نكون جانبنا الصواب فيها لعنوان قصيدة كأنها فلقة القمر للغتها وعمق تجربتها ومستواها الرفيع ، قالت فيها "إلى حبيب طالت غيبته"
أنر ْلي ظلمَة القلب
لعَلَّ القلبَ يبتســـــــــمُ
فإن اللحظَ ظمآنٌ
وروضُ الحقلِ ينثلـــــمُ
وليلي دونَ أقمارٍ
فكيف سماي تبتســــــمُ
وسائدُ عشقي الماضي
متى يا بدرُ ترتســــــــمُ
وحيدٌ والنَّوى جاري
ولا أملٌ ولاحُلُـــــــــــــــمُ
أهُنْتُ عليكَ يا قمري
فكيف الحُبُّ ينتقــــــــمُ
حنايا الرُّوحِ ذاويَةٌ
فلا لحنٌ ولا نغــــــــــــــمُ
عناقِيدي فمابخلتْ
ولكنْ هدُّها الألــــــــــــمُ
كفاها الرَّيحُ عاصِفَةٌ
فحلمي بعدها عــــــــدَمُ
متى يا أفقُ تلثمني
يغنِّى في هواكَ فــــمُ
بكُلِّ الشَّوقِ أهواهُ
فلا يرقى بهِ نــــــــدمُ
له في الرُّوحِ مايغري
تسامى الحرفُ والكَلِــــــمُ
فإنْ أشرقْتَ في الدُّنيا
تداعتْ عندي الظُلــــــــمُ
فعدْ نتراشَقُ النَّظراتِ
إنَّ الشّوقَ مزدَحِــــــــــــــــمُ
وما تنثالُ رُوحُ الغَيـــــمِ
  إلا حيـن تلتحـــــــــــــــــمُ
فأتِ القُبلَةَ الحرَّاء
     إنِّي لهفَةٌ وفَــــــــــــــــــــمُ.
إلا أنها وبأدب جم ، وروعة تعامل ، وحسن أدب في الحوار والتخاطب ، تجاذبنا أطراف الحديث الذي امتد حداً بسطت فيه بعض قصائدها التي لا تخطئ العين روعتها ، لينتهي الحوار بموقف أخجلني بشكل لا أستطيع تخيل وقوعه مرة أخرى ، فقد كانت " هيفاء السعدي" التي أحاورها هي  الدكتورة ، وسفيرة النوايا الحسنة، ورئيسة تحرير إحدى الصحف ، وتلك الهامة السامقة التي تبينت جانبها بالرجوع لصفحتها، وجدتني متلكأً لهذا التواضع العظيم الذي  رفضت معه وبصرامة أن نناديها مقرونة بالدال، وآثرت مجردة على البساط الأحمدي والعفوي والتلقائي على جلالة قدرها وأدبها وإبداعها،قناعة منها بأن الألقاب أبداً ما صنعت كينونة وقدراً لإنسان .
وحقيقة فإن مثل هذا الموقف يشدنا لقضية  القضايا الأدبية الشائكة التي برزت للسطح في الأونه الأخيرة بشكل لافت ومتفق عليه كظاهرة لاقت رواجاً - كسلوك- في بعض جيل الشباب من الأدباء كتاب الألوان  الأدبية محددات العلاقة التي ينبغي أن تحكم الأديب في إطاره العام مع نضراءه والمتلقين على وجه الخصوص،  كانوا قراءً أو نقاد.
 *وحقيقة فإن الأديب لن يستطيع العيش بمنأىً عن هؤلاء الثلاثة (النظير والناقد والقارئ)مهما حاول الانزواء بعيداًعنهم، فإنه سيجد نفسه محاطاً بهم وبأكثر من مهمة تستدعيه، حتى وإن كان ميالاً للابتعاد عنهم، وفيه جنوح عارم للاشتغال على نفسه وفنه بعيداً عن الضوضاء والأضواء  والتسويق لمنتوجه وأدبه ، فأبداً لن يستطيع أن يجد نفسه إلا بوسط المشهد الأدبي ومعمعته مُتَناَولاً من أحد هؤلاء الثلاثة ، وقد يكون مقتنعاً بعدم الجدوى من آراء النقاد وبأنها - بحسب رأيه - لا تقدم ولا تأخر - مهما كان مدها وجزرها، علوها وانخفاضها، لكنه في نهاية المطاف مطالب بالتعامل مع هذا الوسط بالسلوك الذي ينبغي عليه كأديب قد يكون في غاية الإبداع الذي لا يعفيه بأن يكون متواضعاً،  وسهلاً مرناً بجملة من الأخلاق ينفذ من خلالها لوجدان المتلقي ، وينطلق فيها من مرتكزات حالة الشعور التي ينبغي أن تسترعي شعوره وإحساسه ككاتب مبدع حريٌ به أن تكون تلك ثقافته وقناعاته التي يمليها عليه واقع انتسابه لمؤسسة الأدب كأخلاق قبل أن تكون ممارسات كتابية وأدآئية* .
كم عرفنا من شعراء وأدباء وكتاب في غاية الإبداع وقمة التواضع ، بمجرد أن تتواصل معه -مع تواضع مقامك في الكتابة-  يأسرك بنبله وإنسايته، ويطوقك بأخلاقه وأدبه الجم ، وقد يخصك بعضهم بقصيدة كعربون إخاء ومودة، والبعض قد يقوم بإهدائك ديوانه المطبوع دون أن تطلب منه ذلك ، متكفلاً برسوم نقله من مدينته إلى مدينتك الأخرى وكله فرح وسرور من أجلك ، فتخرج بانطباع أن هؤلاء مبدعون ممتلئون ثقة واعتداداً بالنفس، رضاً بما يصنعون ، بعكس ذلك المبدع الأجوف الذي تسكنه روح الغرور والتعالي ، وتعشعش في صدره أنفاس من الخيلاء، وما حاجتنا إلى مبدعين بلا قيم ، وأدباء لا يجيدون لغة التخاطب وأدب الحوار عن سبق ترصد وإصرار ، ومنفلتون من قيم الكياسة والرصانة في التعامل مع الآخرين ،بحيث لا يرونهم إلا من أبراج عاجية فانتازية ، وبأطراف عيونهم كأنه استحقاق نالوه نظير إبداع يجيز لهم تقمص هذه الهالة التي يجب أن تكون عظيمة من الأهمية بمكان في عيون الآخرين لأنهم في حضرة المبدع فلان.
وغرور الأدباء، أو لنقل بعضهم حتى نكون أكثر دقة وموضوعية، ماعادت تمارس بشكل خافت كما الحال في السابق لدى جيل العظماء الكبار كجيل رواد أبولو والديوان ، بل أصبح ظاهرة تطل بقرونها ولا أحد يستطيع أن ينكرها ، وأصبح الواقع حالة من الشكاية يطلقها بعض الأدباء أنفسهم من وسط واقعهم همساً وتصريحاً بأن ثمة أوجهٍ متعددةٍ لهذه الظاهرة تشيع في الأوساط رائحة مقززة للنفس ، وتعكر صفوه بسلوكيات تخدش روح الأديب وجوهره، وتصيبه في مقتل إن كان مبدعاً رفيع المستوى في فنه ، فالظاهرة كثيرٌ أصبح يشكو منها ، وأصبح تناقل الأخبار عن فلان وعلان من هذا الصنف طبيعاً  ولا يخفى على أحد.
وحقيقة فإن ما أثارني وحفزني للكتابة حول هذه القضيه التي أثيرت من قبل وأثريت كثيراً، حالة الارتهان والركون لنشوة الغرور التي تستهوي بعض الأدباء الذين يرون أنفسهم فوق النقد، وإبداء الملاحظات على بعض ما يكتبون من نصوص أدبية اتسم أغلبها بالنضوج الواصل حداً من الإبداع، و تضافره بشهادات الكثيرين، فشكلت لديهم حالة من الاعتداد بالنفس تجاوزت حدود المعقول من التواضع وخفض الجناح إلى الكبرياء والغطرسة الصامتة ، ولا يجوز له ذلك بأي حال من الأحوال مهما كان مستوى من يتناول شعره وأدبه .
وللقارئ أن يحكم بيني وبين شاعر سقت له قصيدة كتبها وترقى لأن تكون بمستوى رفيع من لغة قصيدة  لشاعر آخر فيها من التماثل والتضمين لبعض معانيها وألفاظها وقوافيها مما لا تخطئه العين ، وإن اختلفتا في موضوعهما،  سألته بكل أدب وتأدب هل كنت على دراية بالقصيدة الأخرى التي شابهها ببعض قوافيها ومعانيها للتماهي الذي أراه -من وجهة نظري- تقاربٌ جميل بينهما،لكنه وبالمباشر مازاد على أن قال: "أأهبل أنت أم تستهبل"
فاجأني رده لعدم توقعي ذلك الأسلوب ، ظللت ساعات بعد جوابه أنتظر جملة أخرى علها تبدد ما تبادر لذهني من سوء ظن - كما قد يكون - لخروجه عن الكياسة في التخاطب والحوار ، حتى وإن كان يريد  الإشارة - همزاً-   إلى أن المقارنة قصدنا بها سرقته لنص غيره علماً بأنها المرة الأولى التي أتواصل فيها معه دون أن يعرفني ، بعكس معرفتي المقتصرة على  شعره ونيله جائزة في إحدى المسابقات الأدبية على صفحة بالفيسبوك.
 لطفت جو النقاش بكلمة "شكراً" دون الدخول معه بمهاترات ،مذكراً إياه  بأن الغرور قاصمة الظهور، ومن تواضع ازداد رفعة ، لم يزد حينها على أكثر من ضحكة و" ياصديقي لست مغروراً" ختم بها حديثه.
وحقيقة فقد كنت متحمسا لخوض نقاش فائض ومستفيض تصورته كم سيكون شيقا لأعجابي الشديد بقصيدته والشاعر المقابل الذي سقت له قصيدته لما فيهما من تشابه في غاية الروعة والجمال " ألفاًظاً ومعاني وقوافي" وانتمائهما للغة واحدة كما قد تبادر لذهني كمتلقي .
 السؤال الذي فرض نفسه حقيقة:
مالغريب والمثير في سؤالي على روح الدعابة التي غلفته بها ليُستَفز ويؤثر أسلوب السخرية، ثم هل حرام على الشاعر أن ينزل  لمستوى متواضع في فهمه وإدراكه وتذوقه مثلي ، وهل الأجدى أن يستحيل أسلوبه لغة راقية ومتحضرة فيها من النبل والأدب ما يشي بأنك في حضرة شاعر على قدر أدبه وعند مستوى ممارسته ، أم أنه يجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم للمستوى الرفيع الذي وصلوا إليه في شعرهم ، ولماذا الإصرار -حقيقة- على انتهاج مثل هذه الأساليب المتعالية في التعامل مع جمهور المتلقين الذين قد يعكسوا روحه وفنه وإبداعه بشعور نابع من الوجدان بأنه عند المستوى وعلى قدر المسئولية ، أسئلة وغيرها نطرحها - على رأي فيصل القاسم - على هؤلاء الذين يغلقون أبواب الانفتاح على الآخر ، ويضنون بأنهم يحسنون صنعاً في لغة تخاطبهم ، تأدبهم في حوارهم مع الغير أياً كان .
للأسف الشديد فإن بعض الأدباء ، ولنقل المبدعين من هذا البعض  تصرعهم حالة الفوز ببعض الجوائز الأدبية والانتسابات لبعض المؤسسات الشعرية ، ونشر بعض مجلات لنصوصهم ، طباعتهم بعض أعمالهم ،  قد شجعهم - لربما على ذلك -   فتصنع منهم هالة من الشعور بالتفوق على الأقران، والاعتداد بالنفس حد يرى لنفسه جواز ما لا يراه لغيره في تخاطبه مع المتلقين لنيله مراتب عليا في فنه قد يشهد له فيها* .
للأسف الشديد فإن المثل القائل "يا أرض اشتدي فما عليك قدي" ينطبق على تعامل البعض من الأدباء المعتدون بأدبهم حد الغرور ، ويرون في أنفسهم قامات وهامات واجب أن لا تتطاول دونها الأعناق ، وبحيث تبقى في مكان مقدس من الرفعة والتعظيم كأقل واجب ينبغي التعامل به مع هكذا مبدع مثله* .
متى يدرك هؤلاء بأن المبدع الرائد من الأدباء إنسان يتصدره  التواضع ، وتتلبسه روح البساطة والمرونة، وتتجسد فيه معاني الانفتاح لكل الملاحظات التي ترى في نصوصه وجهان من المعطيات مهما علت أو انخفضت.
إن المبدع قبل أن يكون مقتنعاً بأدبه هو ذلك الإنسان  الذي ينطلق في أدبه من مشاعره التي تسترعي فيه روح إنسانيته وجيشان شعوره المرهف ، أما من يرى تعامله بأدب واحترام مع متلقيه زيادة في الفضل منه عليهم ، نقول لهم دونكم وهذ الشعور  " فالغرور قاصمة الظهور " وقديماً قال أبو العلاء المعري:
♦خفف الوطئ ما أظن أديم الأرض* إلا من هذه الأجساد
وكذلك قال ابن حجر العسقلاني
♦ تواضعْ كما النجم استبان لناظر*على صفحات الماء وهو رفيع.
ولا تك كالدخان يرفع نفسه* إلى طبقات الجو وهو وضيع. وليتنا كلنا وأنا المعني الأول نتأمل قول الشاعر القبطي جرجس المصري حين قال في أجمل بيت مفرد حوى بين دفتيه أجمل المعاني :
♦ملئ السنابل تنحت بتواضع* والفارغات رؤسهن شوامخ..
حتى وإن كان المبدع ممتلئ بمخزون أدبي فخم لا يبرر له ذلك حالة التعالي التي يمارسها وقد لا يشعر البعض بها أحياناً، وأحيان أخرى قد تزخرف له فعل الغرور لأحقيته فيه كونه مبدعاً يشار لإبداعه بالبنان ،فيصير حاله كما قيل " الفعل كبر ، وتواضعه قول وحبر" يمارس الكبر ويدعي التواضع .
ومازلت أسأل نفسي أحياناً مع بعض المشاهدات والتأملات ، متى ياترى يدرك بعض المبدعين من الأدباء بأن الأدب قبل أن يكون ممارسة كتابية في شكله، هو قيم وأخلاق ومُثلٌ وآداب في جوهره حتى يزهو فعل الكاتب ، وتتعزز عظمته، ثم متى كان الإبداع مُنطلقٌ لا يضع في اعتباره مرتكزات إنسانية تسترعي شعوره وإحساسه ومخيلات فكره ووجدانه بعيداً عن الممارسة الترفية للأدب.
والبعض منهم للأسف الشديد بمجرد أن تمارس عليه شيئاً من النقد كأنك تصب على أذنيه الآنك المنصهر ، ولا يكتفي بعبارات الاستهزاء والسخرية والتقليل من شأنك كناقد قد تكون متواضعاً وهذا وارد  ، بل لا يقبل منك بأن تساويه بشاعر رفيع المستوى بحجة أنه شاعر له أسلوبه ولغته مثله تماماً ، وأنك سقت مقارنة غير منصفة، هذا إذا كان حالك في نقاشك معه لأول مرة، لكن حين يدرك بأنك تملك بعض الأدوات النقدية التي تحاول بها -فحصاً وكشفاً- البحث في المكامن والمواطن الخلال  يبدئ في التلكؤ،  ويستدرك موقفه برمي حبل من الرجوع ، ومد جسرٍ بينه والمهزوء به ألم.

 

تعليق عبر الفيس بوك