النهاية الصادمة في قصص فؤاد نصر الدين


أمين دراوشة | فلسطين

 يغزو المولود الجديد "القصة القصيرة جداً" العالم الأدبي العربي، وقد أثبت وجوده بعد أن ولجه كتاب كبار في العالم العربي. للقصة القصيرة جداً صفات تميزها عن الأنواع الأخرى، وأول صفة هي صفة الحكائية، وكونها مختزلة جداً فإنها تبدأ من داخل الحدث، فالكاتب يرسم شخصياته وهي تقوم بالفعل. يقول فؤاد نصر الدين في قصة "شق كعبيك":
"نام معها فانتشى، ثم أشعل سيجارة، ثم سرح بخياله في نعومتها وجمال وجهها. هي جواره ممددة في سعادة. رأته سارحاً، داعبت بأطراف أصابعها شعر صدره…
- ما بك؟ رد متردداً: - لا، أبداً فقط كنت أفكر… استدرك: - لكن قولي لي ما سبب شقوق كعبيك؟ قالت بشيء من الحزن الرقيق: - من الشبشب. أريدك أن تشترى لي (صندل مقفول). قال لنفسه: - مصروف آخر جديد، فأدار لها ظهره، صامتاً، ونام". هنا شعرت بالشقوق تتحول إلى روحها لطلبها الصندل المقفول، ثم نامت محتضنة شقوقها. القصة لم تعط أي شيء عن الزوج ولا الزوجة، بدأت مباشرة من فعل الجنس، كما أن الزمن غير موجود، ولا يخبرنا الكاتب أين تم الفعل، فالمكان مفهوم، وهو غرفة النوم بالتأكيد، والزمن هو الليل، إن النص يستخدم كلماته من أجل الوصول إلى هدفه ببساطة. ولا شك أن الحكائية موجودة في النص، وهي الصفة الأساسية للقصة القصيرة، إن غياب الحكائية عن القصة القصيرة جداً يخرجها عن سكتها وتصبح مجرد حكمة أو طرفة أو غير ذلك. والقصة يجب أن تعتمد على حدث، وفي هذا النوع من القص يفضل أن يكون حدثاً واحداً، وشخصية مركزية واحدة، فالنص لا يحتمل، وهما شرطان لا غنى عنهما فيها. والحدث يوحي ولا يصرح، ويكون مكثفاً وعميقاً، ويترك للقارئ أن يستكمل الفجوات، ولا بد للحدث أن يتصف بالسمات الدرامية التي تهبه التوتر والحركة والفعل، وتمنح النص "النعنشة" التي تجذب القارئ، وتقدم له المتعة المطلوبة. وعلى الرغم من أن فؤاد نصر الدين لم يكثف اللغة في هذه القصة، وأسرف باستخدام الكلمات، إلا أن فكرتها عميقة. فالقصة القصيرة جداً تتناول مادتها من قلب المجتمع، حيث تكشف عيوبه وتنقدها، بطريقة بارعة كمبضع جراح، فهي ليست مجرد ومضة دون معنى، بل لها هدف له قيمته. فالقصة تتحدث عن واقع المرأة والظلم التي ترزح تحته، سواء كان مادياً أو معنوياً، القصة تتضمن شخصيتين ويلعب الرجل فيها الشخصية الأساسية، فهو ينام معها، ويشعل سيجارته بعد أن قام بمضاجعتها ويسرح في خياله، وعندما تداعبه بكعبيها ويرى شقوقهما، ويستفسر عن السبب، وتقول له أنها تحتاج إلى صندل جديد، ما كان منه إلا أن أدار وجهه وابتعد عنها ونام، بعد أن فكر بالخسارة المادية. ردّة فعل الزوج السلبية أحبط اللحظة، التي من المفترض أن تكون جميلة، وانعكس على المرأة بحالة نفسية صعبة وقاسية، جعلتها تستذكر شريط حياتها معه بعد أن شرخ روحها. القصة القصيرة جداً أحداثها تسير في إيقاع سريع، لذا هي تستند إلى نهاية مفاجأة ومباغتة، تجعل القارئ يتلقى الفكرة بقوة، فالنهاية في القصة كانت غير نمطية وكانت مربكة وصدمت القارئ، إذ أن القاص أخبرنا عن لحظات لذة ومتعة، ثم قادنا إلى اتجاه مغاير تماماً، يجعل القارئ يتوقف ويعيد قراءة القصة، نتيجة ما أحدثته من صدمة ودهشة. لا شك أن الخطاب السردي للمبدع هو وسيلته لإيصال فكرته وموقفه من الشخصيات واللغة والأحداث والعقدة إلى القارئ، ويقول الباحث الدكتور باسيليوس حنا في دراسته حول القصة القصيرة جداً، إن الخطاب السردي لهذا النوع من القصة يفتقر إلى مرجعيات محددة من قبل، فهو خطاب متمرد وثائر على القوالب التعبيرية، ولا يعنيه الانتماء للمقدس. والقصة القصيرة جداً ترتكز على الاختزال الذي ينتج التوتر، و"تنعنش العقل" الذي عليه أن يعثر على طريقة لملء الثغرات المضطربة والقلقة في متن القصة، وهذا الأمر يعطي للقصة مديات قرائية بلا حدود، فقلب النص هنا الثغرات التي تبقي العقل حاضراً بعد الانتهاء من قراءته في محاولة لسدها، مما يجعل القارئ الفطن يعيد بناء النص من جديد. ومن مميزاتها التناص، والتناص يهب القصة الاختزال والتكثيف، والإحالة على نصوص أخرى مما يسمح بملئ الفراغات. والنص الذي لا ينتمي، هو نص كوني يتفاعل وجودياً مع العالم الذي يحيا فيه، ويخرج عن كونه نصاً محلياً كما يقول الناقد باسيليوس. فلنأخذ النص التالي:
"دود"
"خرج الدود إلى النهار… فأبصروا أنفسهم لأول مرة… شديدي الهزال تقودهم دودة ممتلئة الجسم تسير أمامهم الهوينى… سألوها: ما بالنا نحاف، هزال، وأنت ممتلئة وسمينة؟ قالت لهم: كنت آكل لحم الموتى، وأنتم تأكلون العظام…". النص ليس له هوية محددة، هو نص كوني، يتناول عبر الرمز والإيحاء شعباً من الدود، تقوده دودة متسلطة وجشعة، وفي النهار وتحت أشعة الشمس تنكشف الحقيقة، حقيقة كونهم لا حول لهم ولا قوة، مغيبين ومضللين ويعيشون في ظلام دامس، ويعانون الفاقة والجوع، بينما القائدة ترفل بالنعيم والحياة المرفهة، ولكن عندما يبدأ الدود "الناس" بطرح اﻷسئلة، فهذا يعني الشروع في طريق الوعي، والذي حتماً سيقود إلى الشمس، فقلب القصة هو في التساؤل، هي قصة موغلة في الرمز وتعطي دافعاً للقارئ كي "ينعنش عقله" ويغور في الظلام والنور، من أجل الوصول إلى حلول تعيد اللاطبيعي إلى وضعه الطبيعي. أثارت القصة القارئ، ومدته بما ينعش الروح والقلب، والشعور باللذة والمتعة من خلال المشاركة في تقليب أوجه القصة. والنص لم يكن موجزاً وحسب، بل يعبر عن موقف شمولي، أتاح له الانطلاق من بيئته المحلية إلى العالم الكوني، ونجح الكاتب في استخدام كلمات قليلة في إيصال الرسالة التي يريدها. ومن صفات القصة القصيرة جداً، والتي تقودها إلى النجاح، المفارقة، فالكاتب يبحر بالمتلقّي في بحر هادئ ويجره إلى غايته، بطريقة لا يتوقعها في النهاية.  يقول فؤاد نصر الدين في قصة "طعنة": "كانا صديقين لا يفترقان… بالأمس سارا معاً في طريق طويل، رأى أحدهما خنجراً، التقطه، تفحصه، ثم طعن به صديقه وأكمل السير وحيداً…". هنا أبدع الكاتب في استخدام المفارقة وتفجير المتوقع والتكثيف والترميز والنهاية المباغتة، فالقصة تتحدث عن صديقين حميمين لا يفترقان، وسارا معاً أغلب مشوار العمر، إلا أن أحدهما لم يكن راضياً عن هذا الوضع، وفي قلبه حقد وشعور لا يمكن وصفه إلا أنه معبأ بالضغينة والكراهية، فما تحت البحر أكثر بكثير مما يوجد على سطحه! لذلك، وبدافع الغيرة أو الأنانية والنرجسية أو الطمع والجشع، يتناول الصديق خنجراً التقطه من الطريق ويقتل صديقه، ولأنه لا يريد لأحد مشاركته، يكمل مشواره وحيداً. ولا بد من إشارة أخيرة حول القصة القصيرة جداً، فهناك نقاد يظنون أنها ليست أكثر من سحابة عابرة، وسترحل وتختفي. ويقول القاص محمود شقير إنه ضد هذا الرأي، وأن هناك فرصة كبيرة أمام القصة القصيرة جداً للصمود والبقاء، وأنها ستخطو بثقة إلى الأمام في حالة انتباه النقاد إليها، وإذا قاموا بدراسة نماذجها المتقدمة، ووضعوا لها التنظير النقدي الذي بوسعه ترشيد خطاها، مما يمهد إلى انطلاقها وتحليقها في سماء الأدب العربي.

 

تعليق عبر الفيس بوك