السياسة الإسكانية المستدامة

عائشه عبدالله العلوية

لا شك أن التضخم في أسعار المساكن -سواء كشقق أو أراضي فضاء أو بيوت (فيلل)- هو تحدٍّ يفرض على صناع السياسات التفكير في حلول مستدامة لمواجهة الصعود المتنامي لأسعار العقار، وما يقابله من طلب متزايد ناتج عن النمو السكاني والنمو الاقتصادي في البلد، وفي حين كانت السياسة الإسكانية في السلطنة قائمة على منح المواطن أرضاً سكنية بهدف الاستقرار والبناء، إلا أن قانون الأراضي المعمول به منذ مطلع السبعينيات وحتى الآن، يُعاني ثغرة جوهرية تحول دون تحقق هدفه السامي: (الأرض للسكن فقط).

ويُشير الواقع إلى أنه لا يترتب على منح الأرض للمواطن بناء مسكن لأسرته؛ ففي معظم الأحوال تتحول الأرض الممنوحة للسكن إلى سلعة للعرض في سوق العقار، ترتفع قيمتها بقدر ما تتمتع به من مزايا؛ كالمساحة والموقع المكاني وخدمات البنية الأساسية المحيطة بها، وهكذا مع كل مخطط يطرح للتوزيع يحتفظ القلة القليلة منهم بأرضه لبناء بيت العمر من مصادر التمويل المتاحة؛ سواء بنك الإسكان العماني أو البنوك التجارية. أما الفئة الغالية فتتخذ قرار البيع، والسؤال الذي يطرح نفسه في ظل الوضع الحالي الذي يشهد تضاؤل عدد المخططات أمام عدد الطلبات: هل يُمكن الاستمرار في سياسة منح الأراضي لأن الأرض كمورد لم تعد متاحة لكل المتقدمين؟

وفي الوقت الذي نَرى فيه أن سياسة المنح الحكومية المطبقة قد أدت لخلق أزمة أراضٍ (ندرة المتاح للتوزيع)، إلا أن سوق العقار في السلطنة يشهد نموا متزايدا في أصوله، ولا يزال جاذبا للمستثمر المحلي وغير المحلي، ويلجأ المواطن الذي طرح سابقا أرضه للبيع إلى البحث عن شراء أرض أو منزل أو شقه من خلال المطروح في السوق العقارية، وهنا يقدم القطاع الخاص -ممثلا في كافة مكاتب وشركات الوساطة العقارية- وكذا المطورون العقاريون منتجات سكنية مطورة أو غير مطورة، وقد نتج عن ازدهار النشاط العقاري في السلطنة تدفق رؤوس أموال أبناء منطقة الخليج للتملك العقاري؛ حيث بلغ جملة ما يملكونه في العام 2017 أكثر من مليوني متر مربع، وارتفعت نسبة التملك الخليجي 9% في هذا العام مقارنة بالعام 2016 يطرح معظمها للمضاربة بالدرجة الأولى في السوق العقارية النشطة، وفي العام 2015، ارتفعت نسبة تملك الخليجيين 44% مقارنة بالعام 2014؛ مما حدا بوزارة الإسكان إلى إصدار تعميم يشترط على المستثمر الخليجي تعمير الأرض خلال أربع سنوات من شرائها.

ومع وجود فجوة كبيرة بين عدد الطلبات المدرجة على قائمة الانتظار، وعدد الأراضي السكنية المخططة للتوزيع، فهل هناك أزمة سكن حقيقية؟! نعود إلى الإحصائيات لأنها الأكثر دقة في التعبير عن الواقع وسنقف على إحصائية نشرت مطلع العام الجاري 2018 وتشير إلى أن العمانيين هم الأعلى نسبة بين دول مجلس التعاون في تملك مساكنهم بنسبة تفوق 80%، وهذه النسبة في جزء منها تعود لثقافة المجتمع المشجعة على تملك مسكن ولو بعد حين من الاستئجار أو الإقامة بمسكن العائلة، وكذلك على قوانين أو تشريعات الدولة؛ ومنها: منح الأراضي التجارية أو الصناعية التي كانت قبل فترة ضوابطها أقرب إلى ضوابط المنح السكني، وقد اطلعت على دراسة قام بها باحثون بجامعة السلطان قابوس عام 2014 موضوعها (التباين المكاني لمستويات الحرمان على مستوى السلطنة)، بالاعتماد على بيانات التعداد العام للسكان العُمانيين 2010، بغرض معرفة الاحتياجات التنموية لهذه المناطق، ومن ثم تركيز التنمية والتطوير فيها، وحدَّدت الدراسة عددًا من المتغيرات: (العمل، المهارات، التعليم، الصحة، السكن، التسهيلات المنزلية والبيئة المعيشية)، وخلصت الدراسه إلى أن الولايات الأكثر حرمانا في تملك مسكن هي: رخيوت، المزيونة، ضلكوت، محوت، الجازر، الدقم، وهيماء، وشليم وجزر الحلانييات)، وأن 42 ولاية عمانية يقطنها 67% من السكان مؤشر الحرمان فيها أقل من مستوى الحرمان المتوسط في السلطنة، وأن 19 ولاية يقطنها ما نسبته 32.7% من السكان العمانيين مستوى الحرمان في مؤشر ملكية السكن أعلى من المتوسط العام للحرمان في السلطنة، وهذه مؤشرات إيجابية لحالة الاستقرار الاجتماعي من جهة، ومن جهه أخرى مؤشر على الوضع الاقتصادي الجيد للأسر العمانية؛ فكلما تملك الفرد منزلًا أو أرضًا أو أي شكل آخر من أشكال العقارات، كان ذلك علامة على ما يتمتع به من مكانة اجتماعية أو وضع اقتصادي جيد، إنَّ الفئات الاجتماعية متوسطة ومحدودة الدخل تظل في حاجة إلى الحماية والرعاية باستمرارية البرامج الحكومية للإسكان الاجتماعي، أو ما يسمى في بعض الدول "بالإسكان الميسر"؛ حيث يشكل الحصول على المسكن (بيت العمر) حلمًا بعيدَ المنال بالنسبة لها؛ لارتباطة بتعقيدات مالية كعدم موافقة الجهات الإقراضية لتمويل بعض شرائح الدخل المتدنية أو تأخر الجهات الراعية تلك التي تتولى مسؤولية التخطيط في توفير المسكن وفق برامج وخطط مستدامة وحسب متطلبات الواقع وما تفرضه المستجدات الاقتصادية؛ سواء في مواسم الأزمة أو الرخاء؛ لذلك فإنَّ التفكير المستمر لصالح بعض الشرائح الاقتصادية في المجتمع هو ضمن أولويات الحكومات؛ حفاظا على تنمية اجتماعية عادلة، وتدعيما لأسس الاستقرار الأمني والاجتماعي.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هي السياسة السكانية الملائمة إذا كانت السياسات الحالية قد خلقت فجوة بين العرض والطلب؟ وهل هناك حلول أكثر استدامة على الحكومة أن تلجأ إليها، خاصة وأنَّ القضية الإسكانية ترتبط بمتغيرات اقتصادية واجتماعية وبيئية ليس للقطاع العام "الحكومة" إمكانية السيطرة عليها، في الحقيقة وجدت أشارة في مقال منشور على صفحة أثير الإلكترونية في فبراير 2017 للدكتور سعيد الصقري، تحت عنوان: ما دور سياسة الإسكان في تخفيف تكلفة المعيشه"؛ أشار إلى أنَّ متوسط الإنفاق على الإيجار هو 250 ريالا حسب الإحصاءات الصادرة عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات في نوفمبر 2013، ويعادل هذا المتوسط ما نسبته 36% من متوسط الدخل الشهري البالغ 697 ريالا عمانيا وهي نسبة مرتفعة، مقارنة بما هو متعارف عليه في قطاع العقارات، بزيادة قدرها 8%، ويقول إن هذه الزيادة تحتاج إلى بحث ودراسة، مؤكدا أنَّ هذه الإحصائيات لا تحتسب تكاليف أخرى مهمة؛ منها: مدة انتظار الدور في الحصول على أرض سكنية، والتي قد تصل إلى عقود، كما هو الوضع الحالي، كما لا تحتسب تلك البيانات تكلفة شراء الأرض التي قد يضطر المواطن لشرائها، فكلما اقتربت من الخدمات ارتفع سعرها، وهذا بحد ذاته يرفع تكلفة المعيشة، مختتما مقاله بأنَّ: السياسات الإسكانية المناسبة أساس لتخفيف تكلفة المعيشة لمعرفة سبب ارتفاع تكلفة الإنفاق على السكن من متوسط دخل الفرد، كمراجعة قوانين استحقاق الأراضي، وتقييم السياسات السكانية القائمة *.

وفي الحقيقة أنَّ هناك قصورًا في الدراسات على مستوى السياسات السكانية؛ حيث لا توجد إستراتيجية شاملة ومستدامة للإسكان. أما المسوحات الإسكانية التي ينشر بياناتها المركز الوطني للإحصاء، فلا يتم الأخذ بمؤشراتها عند وضع ملامح الخطط العامة للدولة، ونحن نتفق مع الدعوة لمراجعة التشريعات الحالية، وقياس أثرها على الواقع الاجتماعي والاقتصادي للأسر العمانية، وما يتطلب منها التعديل والمواءمة مع المستجدات الاقتصادية؛ حيث ترفد هذه الدراسات المخططين الاقتصاديين وصناع القرار بالمعلومات والمؤشرات الحقيقية؛ فتساعدهم على صياغة السياسات الإسكانية الملائمة والمستدامة بطبيعة الحال.

ويُمكن قراءة مشروع وضع حجر الأساس لأول مدينة عمرانية متكاملة في مدينة بركاء بإنشاء 1000 وحدة سكنية في المحافظة التي تشكل نسبة الطلبات فيها 15.3% من إجمالي الطلبات في قائمة انتظار الدور على مستوى السلطنة، بأنَّه يأتي في إطار إعادة قراءة لجزء من السياسة الإسكانية الحالية (منح الأراضي) بعد خمسة عقود تقريبا من بدء العمل بقانون الأراضي، مع ملاحظة أنَّ الفجوة كبيرة جدا بين عدد الوحدات في المشروع (1000) وعدد الطلبات التي تفوق (110000). ويقدم المشروع خدمة نوعية للشباب في توفير المسكن محل الأرض السكنية، وهو كمشروع جديد يعكس الشراكة بين القطاع العام والخاص بخبراته وإمكاناته، وسيقوم بتطوير الأرض بإنتاج 1000 وحدة سكنية، وهناك تفاصيل لم يعلن عنها، لكنها ستتضح لاحقا؛ كجهة الطرح التي ستتولى عرض الوحدات للراغبين وصيغة العقود التي سيوقعها المواطن مع الجهة الممولة، ومسؤولية المطور تجاه خدمات البنية الأساسية، ووسيلة تمويل المشروع من مؤسسات مالية بضمان المشروع، أم بضمان أصول أخرى يمتلكها المطور أم بالبيع على الخارطة كأحد حلول التمويل السائدة في الوقت الحالي للمطورين العقاريين؛ سواء كان هذا المطور فردًا أو شركة؛ حيث يقوم هؤلاء قبل اكتمال المشروع ببيع الوحدات السكنية وفي بعض الدول المطبقة لنظام البيع على الخارطة يقوم المطورون العقاريون بتنظيم معارض في المحافظات المنفذة فيها المشاريع، بحضور الجهة الحكومية المسؤولة عن المنح، ويعرض على المسجلين في قائمة الطلبات عدد من المنتجات السكنية كالآتي: شقة، فيلا، أراضٍ سكنية، وتترك له حرية الاختيار، وفي حال اقتناعه بالمعروض عليه يتم التوقيع على العقد بحضور المسؤول الحكومي عن الإسكان والتمويل والمطور العقاري، والسؤال الذي نطرحه هنا: ما هي الرؤية المستقبلية للسياسة الإسكانية وسط تحديات النمو السكاني والهجرة الداخلية إلى محافظة مسقط، ومجتمع يمثل الشباب قاعدته الهرمية الواسعة؟

تعليق عبر الفيس بوك