الوطنية ووجوهها الأربعة

 

 

◄ هل يجب أن تكون الوطنية غاية نسعى لتحقيقها ونضع كل السبل والموارد والأدوات لنضمن الوصول إليها؟

نجاة بنت صالح الكلبانية

الوطنية كلمة يتغنى بها الكثيرون، قد يختصرها البعض في شعارات تُردد في مُناسبات وطنية أو في أعلام تُلوِّح في احتفال أو في قصائد وأهازيج تُلقى فخراً واحتفاءً، وفي المُقابل قد يرى البعضُ أنَّ الوطنية كانت حاضرة قديماً وقد أصبحت غائبة حديثاً بل ولربما أصبحت من تلك القيم التي عفا عليها الزمن. فلا أحد يتحدث اليوم عن الوطنية في زمن العولمة! زمنٌ أصبح النَّاس يتحدثون فيه عن العالم الذي تحوَّل لقرية صغيرة، زمنٌ قد تُرحب فيه بإشراقة الشمس في بلد لتودعها عند الغروب في بلدٍ آخر. يتحدث اليوم النَّاس عن كوننا سكاناً ننتمي لهذا العالم بأسره لا لوطنٍ بعينه لذلك ظهر مفهوم المواطن الذي يتخذ من العالم له

وطنا. (a citizen of the world)

قد يحمل هذا الكلام شيئاً من الصحة، لربما تطور مفهوم الوطنية فعلاً عن سابق عهده ولكن هذا لا يُلغي حقيقة أن الوطنية كمصطلح وكمفهوم لا يزال يُستخدم اليوم ليفي بأغراض عدة.

هناك أولئك الذين يستخدمون الوطنية كوسيلةٍ للوصول لأهداف وضعوها مسبقاً قد تكون أهدافاً مشروعة أو غير مشروعة ولكنهم وجدوا أنَّ الحديثَ الوطني وتبني الشعارات الوطنية هو الطريق لتحقيق تلك الأهداف فلم لا يسلكونه طالما أنَّ غاياتهم في نهايته تنتظر؟ تجدهم يُقحمون الشعارات الوطنية في كل محفلٍ فالحديثُ عن الوطنية مربحٌ لهؤلاء لأنهم يعرفون متى يتحدثون وماذا يقولون وأمام من يروّجون لأنفسهم على أنهم من أشد الناس وطنيةً وأكثرهم حرصاً على الوطن وأمنه واستقراره ومكانته ورخائه فتصبح الوطنية مفتاحاً في أيدى هؤلاء، مفتاحٌ يفتح ما يستعصي من الأبواب لتنقلهم لمناصبٍ هم "فقط" أجدر بها لا لشيء إلا "لوطنيتهم" غير المسبوقة!

وهناك من يَرَوْن الوطنية موسمية تطل علينا في المُناسبات الوطنية فيعبرون عنها بنشيد يصدحون به -أو يصدح به جهاز المذياع في سياراتهم- أو بالأعلام التي تتوشح بها مركباتهم والأوسمة التي يختارون ارتدائها أو لربما بالعبارات المنمقة التي ينتقونها بعناية يلصقونها على سياراتهم فيعبرون عن وطنيتهم للعيان.

يحل علينا العيد الوطني أو يلعب المنتخب الوطني فيُحقق فوزاً أو يأتي يوم النهضة فتكون هذه الأيام دافعاً لمن شاء أن يتشح ثوب الوطنية وموسماً مربحاً لبائعي أدوات التعبير عن الوطنية إن جاز لي أن أسميها كذلك.

والبعض يُظهر وطنيته في حميته وغيرته على الوطن والتي تدفعه في كثير من الأحيان للخوض في أحاديث العدل والظلم والمساواة بين النَّاس وسلطة القانون والحقوق والواجبات وتأخذه الغيرة على وطنه لدرجة تجعله يتخطى ما يسمى "بالخطوط الحمراء" فإذ بالوطنية تُنعت باسمٍ جديد وتسمى "خيانة" لأنَّ الحمية اشتعلت وزادت شعلتها عن الحد المسموح به فللتعبير عن الوطنية على ما يبدو حد لا يجب تجاوزه. فإذا أخذتك الحمية وطغت عليك مشاعر الحمية ستجد نفسك دخلت في مربع الخيانة! نعم ستُنعت بالخائن لبلدك وإلا فكيف تتفوه بهكذا كلام عن وطن أعطاك الكثير وفجأةً تنقلب كل كلماتك التي تفوهت بها لقضايا كفيلة بأن تودعك السجن فتصبح وطنيتك -أيها الوطني- سلاحاً مسلطاً عليك وأنت كنت تحسبه سلاحاً موجهاً ضد الخونة الذين يسرقون بلادك ليلاً نهاراً وسراً وجهاراً.

وهناك الوطنية كغاية، وهنا يكمن لُب الموضوع. هل الوطنية فعلاً غاية؟ وهل يجب أن تكون الوطنية غاية نسعى لتحقيقها ونضع لها كل السبل والموارد والأدوات لنضمن الوصول إليها؟

هل يستطيع مجتمع ما التعايش مع واقع الحال اليوم دون الحاجة لمواطنين يملكون حساً عالياً من الوطنية؟ ويا ترى على من تقع مسؤولية بناء مشاعر الوطنية وتعزيزها في الأجيال الشابة؟

هل تقع المسؤولية العظمى على الوالدين في غرس مشاعر الوطنية؟ وماذا لو لم يكن للأبوين الشعور بالوطنية تجاه بلدهما، من سيُشبع تلك الحاجة لدى الأبناء؟ هل تتحمل المدرسة ذلك الدور؟ وماذا عن الإعلام؟ ومن المسؤول عن تقنين دور كل من المؤسسة التعليمية والمؤسسة الإعلامية في هذا الشأن؟ هل الوطنية مسؤولية أفراد أم مسؤولية حكومة؟ هل الوطنية حزمةٌ من المشاعر الجياشة أم هي منظومةٌ من التشريعات الحارسة والمُنَظِمة لتلك المشاعر؟ هل الوطنية مجموعة من الأسئلة تدعو للتفكير أما أنها مجموعة من الأجوبة تُبدد الغموض؟

طريق الوطنية كغاية هو طريقٌ محفوفٌ بالكثير من الأسئلة والتساؤلات. هو أحد المواضيع الشائكة والمُتشابكة لأنه وببساطة كيف لك أن تقيس وطنية أحدهم؟ وهل يحق لك أن تشكك في وطنية أحدهم؟ وهل لك أن تُزايد على وطنية الآخرين؟

وها أنا ذا قد عدت مجدداً لطرح الأسئلة! ألم أقل لكم إنَّ الحديث عن الوطنية يُثير التساؤلات أكثر من إعطاء الأجوبة!!

دمتم وطنيون.

وكل عام وهذه الأرض المعطاءة وسلطانها وشعبها وكل مقيم على أرضها بخير.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك