"حارسة الظّلال" لواسيني الأعرج نموذجاً:

أثر البنيات الحكائية الصّغرى في توجيه الخطاب الروائيّ (1 – 5)

...
...
...
...


أ.د/ يوسف حطيني | ناقد وأديب فلسطيني بجامعة الإمارات

 

ترى ما الذي يجعل المرء يختار في حضرة عدد كبير من روايات واسيني الأعرج رواية حارسة الظلال(1)؟؟
كنت قد قرأت لواسيني روايات عديدة، وكتبت عن بعضها، مُعجَباً أو مستفَّزاً، بحمى الفن حيناً، وحمى الأيديولوجية حيناً آخر، غير أنني وجدتُ في "حارسة الظلال" رواية تلامس ما يعانيه وطننا الكبير هذه الأيام، من بذور وطأة ربيع عربي يذرو رياح الأنظمة والمؤسسات والشعوب، وما تبقى من حرية كان الناس يعيشون في هوامشها.
لستُ هنا في معرض التحدث في السياسة التي شرّدت أهلي من بيوتهم مرتين، غير أني أجد أنّ هذه الرواية في كثير من حكاياتها تلّخص مشهد الربيع العربي العام: ثورة ضدّ فساد أو ظلم أو تسلّط، تمتلك مسوّغ انطلاقتها، ولا تملك مشروعية استمرارها، بعد أن استحلّت البشر والشجر والحجر، وارتبطت برأس أخطبوطي متعدد الأذرع قابعٍ خارج الوطن، ساعٍ إلى هدمه وتهميش دوره الحضاري والثقافي والسياسي.
في حكايات هذه الرواية التي تشبه فسيفساء دموياً يستدعي ربيعاً من نوع آخر ثمّة صوتان متمردان عاليان:
•    صوت ينتقد مجتمع السلطة بلا هوادة، ينتقد جهازها الأمني (الجهاز الوحيد الذي يعمل في الدولة دون كلل)، مثلما ينتقد الأجهزة الأخرى التي تقصّر عن أداء دورها، فيما تشغل نفسها وزبابيتها بالسعي إلى الفوز بما تستطيع من كعكة السلب والنهب باسم السياحة والاستثمار وغير ذلك.
•    وصوت ينتقد بجرأةٍ أولئك الذين جعلوا من الأيديولوجية المتطرفة نظرية للقتل، فراحوا يقتلون المذنب والبريء، وينصبون أنفسهم قضاة يحكمون بأمر الله على الأرض (!!)، ويعدّون كل من يعمل في جهاز الدولة، سواء أكان ملحقاً ثقافياً أم مدرّساً أم حارساً لمبنى حكومي مناصراً للنظام، ويرفعون سيف سلطتهم المطلقة في وجه من خرج عن تقاليدهم وشرائعهم التي لا مرجع لهم فيها سوى أنفسهم.
وبين هؤلاء وهؤلاء تقف حارسة الظلال، ويقف واسيني الأعرج، ويقف حسيسن/ الراوي ليحفظوا صورة الوطن، وليحرسوا ظلاله النقية، من خلال كلّ حكاية من حكايات الرواية، انطلاقاً من حكاية عنوانها الرئيسي (حارسة الظلال)، تحيل كما سنرى على حكايات أخرى تعمل أيضاً على حراستها.
ثمّة في الرواية عدد من الحكايات التي تحكمها وحدة الصراع الذي يخوضه الطرفان المشار إليهما ضد بعضهما، والصراع الذي يخوضانه متحدين ضدّ حرّاس ظلال الوطن وتاريخه وحضارته.
وقد برز هذا الصراع في عدّة موجات حكائية متداخلة:
•    الموجة الأولى: حكايات الفصول كما عرضها المؤلف نفسه، بما فيها من أحداث ومغامرات وذكريات وخيبات.
•    الموجة الثانية: حكايات الأمكنة المختلفة (وفي القلب منها حكاية الجزائر).
•    الموجة الثالثة: حكايات الشخصيات (حسيسن ودالميريا وحنا وزريد ومايا).
•    الموجة الرابعة: الحكايات التي تحفّزها اللغة الروائية، وسياقاتها الدلالية.
•    الموجة الخامسة: الحكايات الصغيرة المتداخلة التي تصب في المجرى الروائي ذاته.
الموجة الأولى: حكــايــات الفصــــول:
يمتد الفصل الأول من الصفحة الحادية عشرة حتى الصفحة الثالثة والخمسين، ويضمّ المحاور الحكائية التالية، كما ذكرها الروائي تماماً:
•    مغامرة حسيسن التي احتفظ ببعض تفاصيلها حتى لا يثير غضب الآخرين، وحتى لا يتعرض لعملية اختطاف مدبرة.
•    وصول فاسكيس دي سرفانتيس دالميريا (دونكيشوت) إلى الجزائر.
•    انشداد فاسكيس دي سرفانتيس دالميريا لقصص حنّا عاشقة الأشواق الأندلسية الضائعة.
وميزة هذه المحاور (على الرغم من سيرها منذ المحور الحكائي الثاني بخط تعاقبي يُخترق بارتدادات زمنية هنا وهناك) أنها تنطلق من محور حكائي نهائي يمنح الحكاية ذاتها شكلاً دائرياً لا نهائياً، فالحدث الروائي اللغوي الأول (تعرّض حسيسن لذلك الحادث الدموي) هو الحدث الروائي الأخير، والأحداث ها هنا دائرة مغلقة، تشي بإمكانية تكرار المأساة التي نشهد فصولها هذه الأيام في الواقع، لا على الورق.
بعد بوح حسيسن بمأساته النهائية المدمّرة تحملنا الحكاية إلى بداياتها مع وصول فاسكيس دي سرفانتيس دالميريا (الذي يسميه الروائي دون كيشوت تيمّنا بجدّه الأول المعروف) إلى الجزائر، ولقائه  مع حنّا (جدّة حسيسن ووجه الجزائر التقي النقي) فيستمع إلى حكاياتها التي تنضح عشقاً وتاريخاً.
أما الفصل الثاني الذي امتدّ من الصفحة الثالثة والخمسين حتى الصفحة السابعة والتسعين، والذي حمل عنوان (خراب الأمكنة)، فقد جاء بمثابة قطب آخر للفصل الأول، يجاوره وينافره، ففي مقابل أشواق حنّا وحكاياتها، وشوق دالميريا لتلك الحكايات ينهض عالم آخر يدمّر تلك الثيمة المهمة التي ينوء السرد الروائي بحملها، من خلال المحاور الحكائية التالية:
•    ما وقع لحسيسن ورفيقه في مفرغة وادي السمسار.
•    الأسرار الخفية التي كشفها شفيق لحسيسن وصديقه.
•    رحلة دالميريا صوب مغارة سرفانتيس التي أكلتها النفايات.
•    وقوع دالميريا في الأسر على يد الرجل الغامض المتنكر وراء نظارتين سوداوين.
إنّ كل ما تحكيه حنّا العاشقة من تاريخ هذه البلاد، وذكرياتها، وانتماءاتها في الفصل السابق، يتعرض ها هنا للتدمير المنظّم، من قبل أناس لا يعرفون حنا، ولا يعترفون بأشواقها، ويتوجسون شرّاً من جولات دالميريا، ويخشون راوي الحكاية ذاتها (حسيسن) فيقاومون هؤلاء جميعاً بكل شراسة، ويهملون ويعتقلون ويطردون، ويقومون بعملية إحلال للنفايات البيئية والبشرية، مكان التماثيل والحدائق والبشر الأنقياء.
 وفي الفصل الثالث يقاوم حسيسن، أو يحاول أن يقاوم، فعل الاعتقال المريب الذي تعرّض له صديقه دالميريا فيكتشف أنه أمام (ناس من تبن)، وهذا هو عنوان الفصل الثالث الذي يحتل الفضاء الطباعي من الصفحة التاسعة والتسعين إلى الصفحة الرابعة والأربعين بعد المائة، وينشطر إلى محورين حكائيين يلخصهما المؤلف في العنوانين الفرعيين التاليين:
•    حسيسن يكتشف جنساً بشرياً من خيش وتبن، يشعلون النار ويخافون من حرائقها.
•    حسيسن يضيع في دهاليز الخوف والموت.
في هذه الفصل، وفي الفصل الذي يليه أيضاً، تحكم الدائرة المغلقة خناقها على عنق حسيسن، فيلاحق ظل دالميريا وأخباره منتقلاً من مكان إلى آخر، دون أن يستطيع الخروج من حدود تلك الدائرة، وتشدُّ دائرة الاعتقال خناقها أيضاً على دالميريا الذي لا يجد مسوّغاً لحجز حريته، والأدهى من ذلك أن هاتان الدائرتان تتضافرتان مع دوائر أخرى (منها بنية الحكاية الدائرية) لتضعا القارئ في حالتي التوجس والخيفة من دوائر أخرى تضيق حوله شيئاً فشيئاً.
وعلى الرغم من أنّ الدائرة هي أكمل الأشكال الهندسية، وأنها تبقى هندسياً عصية على الاختراق أو التجاوز، فإنّ الروائي لا يجد منفذاً منها سوى الاستعانة بالذكريات، ليسرد لنا الفصل الرابع الذي حمل عنوان العودة (ممتداً على مساحة نصّية صغيرة نسبياً من الصفحة الواحدة والثلاثين بعد المائة إلى الصفحة الرابعة والأربعين بعد المئة)، ويقدّم لنا من خلاله المحاور الحكائية الرئيسية التالية:
•    عودة حسيسن إلى مقر عمله خائباً.
•    أخبار متضاربة عن دون كيشوت.
•    تفاصيل قصته مع زريد التي حكاها كباييرو.
•    زكية التي لا تتوقف عن نكء الجروح بلسانها.
هنا تنهض حكايات الخيبة التي يجسدها الحاضر الروائي، حكايات الضياع واللاجدوى التي تقف على رأسها خيبة حسيسن الذي أخفق في العثور على دالميريا، ليجد نفسه في مواجهة البلادة الساذجة التي تجسّدها زكية، إذ تنكأ جروح الآخرين بلسانها. من هنا لم يكن ثمة طريقة لمواجهة هذه السماء الصلدة الكتيمة سوى الذكريات التي تنفتح على شكل حكاية يحكيها كباييرو عن علاقة دون كيشوت بـ "زريد" التي ستبحث فيما بعد عن ظلالها وتجلّياتها في نفس دالميريا.
أما الفصل الخامس المعنون (كورديلّو دون كيشوت) الذي يشغل صفحات الرواية منذ الصفحة الخامسة والأربعين بعد المائة إلى الصفحة السادسة والتسعين بعد المائة) فهو يحلّق خارج الدائرة، ولكنه يبقى، إيضاً، خارج فعل الحاضر الروائي، لذلك فإننا نسميه اختراقاً من باب المجاز، يروي فيه دالميريا ـ من خلال استذكار خارجي(2) ـ تفاصيل من رحلة دون كيشوت الجد، في أوراق كتبها وهو رهن الاعتقال، وتركها لحسيسن، ولنا، في محورين حكائيين رئيسين:
•    رحلة دون كيشوت للجزائر وأهوال سفره.
•    ما جرى له من مغامرات في المكان المسمّى زفرة سرفانتيس الأخيرة.
وفي الفصل السادس الذي يحمل عنوان رائحة الخوف، يسرد لنا الروائي في الصفحات الثلاثين الأخيرة (من الصفحة السابعة والتسعين بعد المئة إلى الصفحة السابعة عشرة بعد المئتين) تفاصيل محورين حكائيين يسميهما:
•    وقائع جلسة حسيسن مع وزير الثقافة وصديقه رئيس جامعة الجزائر الكبرى.
•    قصة مريم ومصطفى الذين انتحرا بسبب أذى احميدا بوسنادر، ونبش قبرهما.
وذلك من أجل أن تستكمل الشرنقة نسيجها حول عنق حسيسن ودالميريا وحنا وذكريات زريد ودون كيشوت، من خلال ما حدث لحسيسن في جلسته مع وزير الثقافة ومع رئيس جامعة الجزائر الكبرى، ومن خلال قصة مريم ومصطفى التي دخلت إلى السرد الروائي لتزيد الوضع القاتم قتامة، فلا مكان للحب ولا مكان للذكريات في بيئة يحكمها طرفان لا يرحمان بعضهما، ولا يرحمان الوطن وأهله.

 

2.5.0.0

تعليق عبر الفيس بوك