محطة وطن وفرحة شعب

عبد الله العليان

في مثل هذا التوقيت الزمني كل عام، والمعبق بأفراح نوفمبر المجيد، نستذكر تلك المناسبة الوطنية الجليلة، التي هي بلا شك محطَّة وطنيَّة نعتزُّ بها، نستحضر منها ما تحقق لبلدنا، وما نأمل تحقيقه من إنجازات قادمة، للتتواصل المسيرة في طريقها بكل اقتدار، ولا شك أنَّ جلالته -حفظه الله- أكد في أولى الخطابات السامية، عند توليه مقاليد الحكم عزمَه على النهضة الشاملة، والعيش الكريم لهذا الشعب الوفي؛ فقال جلالته بهذه المناسبة: إن "خطتنا في الداخل أن نبني بلدنا، ونوفر لجميع أهله الحياة المرفهة والعيش الكريم، وهذه غاية لا يُمكن تحقيقها إلا عن طريق مشاركة أبناء الشعب في تحمُّل أعباء المسؤولية ومهمة البناء، لقد فتحنا أبوابنا لمواطنينا في سبيل الوصول إلى هذه الغاية، وسوف نعمل جادين على تثبيت حُكم ديمقراطي عادل في بلادنا، في إطار واقعنا العُماني العربي، وحسب تقاليد وعادات مجتمعنا، جاعلين نُصب أعيننا تعاليم الإسلام الذي يُنير لنا السبيل دائما. ولا شك أنَّ عملية البناء شاقة وتتطلَّب الكثير من الجهد والتضحيات للتغلب على المصاعب والعقبات، وسنحمل هذا العبء بصبر، ونمضي في العمل بجد وحزم".

وهذه الانطلاقة أثبتتْ قُدرتها على الإنجاز، رغم المصاعب التي كانتْ واقعة فيما سَبق، لكن كانت العزائم قوية في بدايات البناء، من خلال التلاحم بين القيادة والشعب؛ حيث حددت المسار الصحيح للحاق بركب النهوض، واستعادة ما فات هذا الشعب، في سنوات التراجع على كل المستويات. وكان الجهد مُضاعفاً للإنجاز والمثابرة لبناء عُمان الحديثة، مع الحفاظ على ماضيها التليد الذي هو بلا شك ماض حضاري، تستمدُّ منه الأجيال الحاضرة الكثيرَ من العبر والقيم النبيلة التي تعرفها كل الأمم والحضارات منذ غابر الأيام، وانطلقتْ بلادُنا للخروج من واقع العزلة الذي كانت ترزح تحته لعقود مضت، وجمعت في هذه الانطلاقة بين حاضر مشرق، يأخذ بكل أسباب التقدم واستشرف للمستقبل، وبين قيم الماضي الذي لا غِنى عنه في الأخذ بأسس البناء والقيم التي جعلتْ العُمانيين يبنون تاريخاً عريقاً، لا تزال آثاره شاهدة على ما قدَّموه من حضارة سامقة، وسارت النهضة العُمانية بقيادة جلالة السلطان قابوس بتوازن محسوب، ورؤية حضارية، لم تُقدِم على حرق المراحل، ولا القفز على الواقع، وهذا التوازن استطاعتْ من خلاله بلادنا أن تحقق نهضة تدرجت ليكون البناء متيناً؛ حيث حقق هذا توازناً منطقيًّا، ليس كما قامت به بعض الدول التي طبقّت بعض الفلسفات السياسية، بكل مُنطلقاتها الفكرية دون محاذير تذكر.

وأتذكَّر حديثاً لجلالته -حفظه الله- مع الصحفي اللبناني المرحوم سليم اللوزي صاحب مجلة "الحوادث" الشهيرة في السبعينيات من القرن الماضي، عندما دار الحديث عن الفلسفات الفكرية الشمولية التي تمَّ تطبقيها في بعض النظم، لتطبيق بعض الأفكار على مُجتمعات مُغايرة لفكر تلك الفلسفات؛ فقال جلالته: "الذين يسعون لحرق المراحل، لا يسعون إلا إلى حرق أنفسهم". وبالفعل، فإنَّ هذا ما حصل في هذه الدول؛ حيث احترقت تلك التجربة، واحترق أنصارُها، لكنَّ بلادنا -وبحمد الله- حققت بخطواتها الواقعية نجاحاً إيجابيًّا؛ فالأمم والشعوب التي تسعى للنهوض والتقدم، تضع أسس البناء على رؤية حضارية، تأخذ من تاريخها المنطلقات الرائعة، وتقتبس من الحضارات ما تراه مساهماً في تقدمها ونهضتها، والواقع أنَّ النهضة العمانية ارتكزت على قضية محورية من بداية النهضة، وهي الأخذ بالعلم ومنجزاته الحديثة، باعتبار العلم والتعليم هما قطبا الرحى في أي نهضة تسعى إليها الدول، وقال جلالة السلطان قابوس في بدايات التغيير: "إننا نعيش عصر العلم ونشهد تقدمه المتلاحق، في جميع المجالات، وإن ذلك ليزيدنا يقيناً بأنَّ العلم والعمل الجاد هما معاً وسيلتنا لمواجهة تحديات هذا العصر، وبناء نهضة قوية ومزدهرة على أساس من قيمنا الإسلامية والحضارية".

وهذا بلا شك هو أوَّل الأساسيات التي لابد منها للانطلاقة الصحيحة. كما أنَّ الاهتمام ببناء الإنسان العماني وتأهيله وتدريبه؛ من أولويات النهوض التي سارت عليها بلادنا، وحققت نجاحاً مُهمًّا في رصيد التعليم، وما زلنا نرى أهمية هذا الجانب في الأجيال المقبلة، وقد عبَّر جلالته في مناسبات عديدة عن أهمية بناء الإنسان العماني؛ لأنَّ البناء الجديد يستهدف الارتقاء بالإنسان العماني، وتأهيله واستنهاضه ليقود المسيرة على أسس معرفية قويمة، وبكفاءة واقتدار ليكون مسار النهضة مُتناغماً مع ما نريده من خطط تُسهم في نجاح هذا المسار، ومن أقوى الدعائم التي تحقق هذا البناء -كما قال جلالته- "دور التّعليم في المجتمع العُماني في تثقيف الأجيال، وكيف أنَّ الثقافة تتجلّى في الوعي الوطني الذي هو شرط رئيس في بناء وطن على أُسُس سليمة. فعندما يعي الطالب -المواطن- مسؤوليته كفرد، وعضو في أسرة، وفي المجتمع المحلي والمجتمع الوطني، فلا بدّ أن يتولّد لديه الاقتناع بواجباته نحو وطنه الذي قدّم له ما استطاع ليصبح هذا المواطن ما آل إليه الآن؛ فالعلم ليس للعلم، بل له وظيفة مُتعدِّدة الجوانب، تنعكس فوائدها على الأصعدة الثقافيّة والاجتماعيّة والوطنيّة كافة".

وفي هذا اليوم الوطني المجيد ليومنا الوطني، تتجدَّد الأفراح، وتنتعش الآمال في تحقيق المزيد من الإنجازات في ظل قيادتنا الرشيدة.