حرب غزة الرابعة

 

محمد بن سالم البطاشي

أرادوها عملية خاطفة نظيفة وناجحة تعزز مكانة الائتلاف الحاكم في أوساط الناخبين عامة والمستوطنين على وجه الخصوص؛ لذلك تم اختيار الفريق المنفِّذ من ذوي الكفاءات العالية من قوات النخبة المُسمَّى بـ"لواء غولاني"، ولكنَّ رجال المقاومة كان لهم رأي آخر؛ حيث تمَّت مباغتة أفراد التنفيذ من حيث يدرون ومن حيث لا يعلمون، وبدأتْ معركة شرسة مع القوة المتوغلة، أبلى فيها رجال المقاومة أحسن البلاء، ولولا تدخل الطيران الحربي للعدو الصهيوني بكثافة عالية لأُبِيدَت القوات المهاجمة عن بكرة أبيها، ولم يتم الاكتفاء بقتل قائدها وجرح آخرين.

أرادَ العدو تأديب المقاومة لجرأتها في الدفاع عن وطنها وترابها وشرفها، فأرسل طيرانه وأسطوله البحري ليدمر ما يستطيع تدميره في قطاع غزة المحاصر منذ العام 2006م، ومرة أخرى يأتي الرد مزلزلا بمائتي صاروخ في يوم واحد تساقطت شهبًا راصدة على رؤوس المستوطنين وحافلات جنودهم، ولم تكن الليلة الثانية بأحسن حالٍ عن سابقتها، وبقي ما يزيد على المليون من غلاة المستوطنين حبيسي الملاجئ يلعنون قادتهم الذين أوردوهم المهالك بتصرفاتهم الرعناء.

أُجْبِر نتنياهو على قطع زيارته لفرنسا لمتابعة الموقف عن كثب، لكنه سرعان ما أدرك هو ورفاقه في الحكومة أن لا قِبَل لهم باستمرار هذه الحرب، فالوقائع على الأرض تشير إلى أن المقاومة مصممة على كيل الصاع صاعين ككل مرة رغم التدمير والقتل الذي مارسته الطائرات الحربية والسفن الحربية على أرض القطاع، فسارعوا إلى التقاط خيط الوساطة الإقليمية والدولية بتلهف شديد، وقبلوا بوقف عدوانهم إن قبلت المقاومة ذلك.

وعادتْ الحكومة ورئيسها بوجه بائس يستعطفُ الشارع، ويحاول لملمة شتات أمره وائتلافه المتهاوي، وإذا بقارعة أخرى في انتظاره؛ حيث أعلن وزير الدفاع المتطرف في حكومته "أفيجدور ليبرمان" استقالته من الحكومة ليفر بجلده قبيل الانتخابات، علَّه يتخلص من عار هذه الحرب وتداعياتها، ويرمي باللائمة على رئيس الوزراء.

لقد كشفتْ هذه الحرب القصيرة أنَّ إسرائيل تستطيع إشعالها في أي لحظة، لكنها لن تستطيع التحكم في نتائجها ومآلاتها، وهي حالة تقترب في الشبه بمأزق إسرائيل في لبنان، وما هي إلا مسألة وقت -نحسبه ليس بعيدا- وتحقق المقاومة توازن الرعب القائم حاليا بين إسرائيل ولبنان.

لا نقُول هذا الكلام ارتجالا أو من باب المبالغة، بل الأفعال على الأرض تؤكد ذلك، وتدعمه الوقائع والشواهد التاريخية التي لا لبس فيها، فما سقط حق وراءه مطالب، ولا دام احتلال تقابله إرادة شعبية عارمة بالتحرر من نير الاحتلال، فكل احتلال مصيره إلى زوال مهما طال أو استعلى.

إنَّ أصحابَ الحق إن سعَوا وصمَّموا على استعادة حقوقهم وحريتهم، فليست هناك قوة تستطيع الوقوف في وجههم؛ حيث المكان والزمان والجغرافيا والديموغرافيا تنحاز دائما لمصلحة أهل الحق، بل وتحارب معهم.

حقيقة أخرى كشفتها هذه الحرب بوضوح تام؛ تتمثل في أن إسرائيل العاجزة عن حماية أمنها وأمن مستوطنيها وساكنيها هي أعجز اليوم عن حماية من تدعي صداقتهم وتوسوس لهم بالدعم والحماية، ولن تنفعهم بشيء، وهي كالشيطان "إذ قال للإنسان أكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين"؛ ذلك أن فاقد الشيء لا يعطيه، وإسرائيل تفتقد الأمن والأمان والاستقرار على كافة الصعد داخليا وخارجيا.

أمام هذه الحقيقة، تجد إسرائيل نفسها أمام مفترق طرق يتعلق بالمستقبل والمصير الذي لا تبدو مآلاته  مضمونة لمصلحة الكيان الصهيوني؛ فبعد سبعين عاما من الاحتلال لفلسطين، وقتل وتشريد أهلها في أسوأ انتهاكات لحقوق الإنسان عبر التاريخ، لم تَنَل إسرائيل مُبتغاها؛ فلا الجيل القديم مات، ولا الجيل الحالي نَسي، بل اشتدت صلابة  العود وأنبت شوكًا وعلقما. فجيلُ اليوم يقتحم على المحتل حصونه، ويدك عروشه، ويطارده في الشوارع والأزقة، بصدور عارية ونفوس تتأجج غيظا وحنقا وتتوق للشهادة، تلك الجماهير الهادرة المؤمنة بعدالة قضيتها وقداستها رغم كل الآلام والخسائر التي تتكبدها، لكنها مصرة على تحقيق هدفها مهما عظمت التضحيات، وهذا يحير ويقلق قادة إسرائيل؛ فرغم القتل والاعتقال والقمع وهدم المنازل ومصادرة الأراضي  وكافة أساليب الاحتلال التعسفية، لا تزال الجماهير تتصدى لهذا العدو الغاشم وترفض أي نوع من المهادنة، بل إن الأمر أضبح أدهى وأمر حين انضمت جماهير أرض 48 أو ما يسمى بـ"عرب إسرائيل" إلى جماهير أراضي 67 في التظاهرات والاحتجاجات ضد الاحتلال وسياسته العنصرية.

ثم جاءت ثالثة الأثافي حين بدأت المقاومة تتصدى بصورة أكثر صلابة وجرأة لجنود الاحتلال في غزة وأصبحت المنازلة مرهقة للاحتلال، بل وأصبحت غزة مقبرةً لآماله قبل جنوده؛ ليُعلن الاحتلال انسحابا مهينا من قطاع غزة تحت وطأة ضربات رجال المقاومة. ويجلي مستوطنيه -8600 مستوطن- ويفكك مستوطناته الأربع في غضون ثمانية أيام فقط في صيف عام 2005م، لتبدأ مرحلة جديدة من صراع الإرادة بين المحتل الذي يحاصر القطاع برا وبحرا وجوا، وبين أصحاب الأرض المؤمنين بعدالة قضيتهم وحتمية زوال الاحتلال. وخاضت إسرائيل حروبا ثلاث ضد القطاع كانت الأولى بين عامي 2008 و2009م. عادت عليها كلها بالخسران المبين، وللمرة الرابعة جاءت تجرب حظها في نوفمبر من العام 2018م فقابلها رجال المقاومة بما لم يكن في الحسبان، فبُهت قادتها ونكسوا رؤوسهم وطلبوا الصلح والرجوع إلى التفاهمات السابقة، ولسان حال المقاومة  يقول: إن عُدتم عُدنا.. وإنَّ بداية الخلاص وزوال الاحتلال قد لاحت، وإن غدًا لناظره لقريب.

تعليق عبر الفيس بوك