طائر الفينيق الفلسطيني

عبيدلي العبيدلي

فيما كانت محادثات التهدئة بين الفلسطينيين والعدو الصهيوني، التي برعاية مصرية، تسير في اتجاه إيجابي، باغت الكيان الصهيوني الجميع بعملية تسلل قامت بها مجموعة من قواته الخاصة، أعلن إثرها "المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، رسميًا، مقتل ضابط في الجيش، وإصابة ضابط آخر نتيجة تبادل لإطلاق النَّار، خلال عملية لقوة خاصة في قطاع غزة، (داعيا) سكان المستوطنات إلى اتباع التعليمات الصادرة عن الجبهة الداخلية الإسرائيلية، كما دعا الجمهور الإسرائيلي إلى عدم نشر الإشاعات".

 من الجانب الفلسطيني أعلنت حركة حماس"أن الواقعة بدأت عندما فتح مهاجمون يستقلون سيارة، النار على مجموعة من عناصرها، ما أسفر عن مقتل أحد قادتها. وأضافت في بيان أن أفرادها قاموا بمطاردة السيارة التي سارعت بالعودة تجاه الحدود مع إسرائيل".

وبغض النظر عن التحليلات التي رافقت، وتلت تلك العملية، فمما لا شك فيه أنها كانت ذات أهمية استراتيجية بالنسبة للعدو الصهيوني، يؤكد على ذلك مجموعة من الشواهد أبرزها:

إيكال القيام بتلك المهمة لقوة من القوى المميزة في مؤسسة دفاع العدو وهي "القوة الخاصة"، يقودها ذو مرتبة عالية في تلك القوة.

هروع وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان إلى "عقد اجتماع طارئ، في مقر الهيئات الحكومية (الكرياه) بتل أبيب، بحضور قيادات عسكرية وأمنية، لمُناقشة أبعاد العملية"، بعد أن اعتبرتها بعض الدوائر الإسرائيلية "عملية فاشلة من النواحي الاستخبارية والميدانية".

التخوف من نتائج عكسية، يمكن أن تولدها تلك العملية، بغض النظر عما تسفر عنه، وهو أمر أشارت له بعض وسائل الإعلام الصهيوني من بعضها ما نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" عبر محللها العسكري رون بن يشاي، قال فيه "إن إرسال عناصر النخبة إلى عمق القطاع كان من الممكن أن ينتهي بأسرهم، وهو ما سيعني حدوث تصعيد عسكري مباشر، مذكرًا بأن عمليات من هذا النوع لا ينبغي أن تنفذ سوى في ظروف محددة، يبدو وأنها لم تتحقق هذه المرة"..

اضطرار رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو إلى "قطع زيارته إلى باريس، حيث انضم إلى قادة العالم لإحياء الذكرى المئوية لاتفاق الهدنة الذي أنهى الحرب العالمية الأولى"، والعودة على جناح السرعة لمُتابعة سير أحداث تداعيات العملية عن قرب. تحسبًا لأية ردود فعل تصاعدية غير متوقعة، ليس من الجانب الفلسطيني وحسب، وإنما من داخل مؤسسات الكيان الصهيوني أيضًا.

ليست هذه المرة الأولى التي يستخف فيها العدو الصهيوني بقدرة الفلسطينيين على المواجهة وإلحاق هزيمة به، مهما بلغ حجمها من الصغر، لكنها تبقى مهمة للتراكمات التي تتركها وراءها. لذلك فإن ما قام به الفلسطينيون لم يكن مفاجئاً لمن يعرف هذا الشعب، الذي هو في سلوكه يقترب من أسطورة طائر الفينيق (Phoenix) الذي يصفه البعض بالقول، "احترق فبُعث مجدداً من رماده، عبارة تنطبق على كائن أسطوري كان له صدى واسع في التراث الشعبي القديم لدى الكثير من الشعوب الممتدة جغرافياً حول العالم كالمصريين والفينيقيين والإغريق والفرس والرومان والصينيين".

فطائر الفينيق، الذي كما تروى الأساطير عنه، هو "طائر عملاق طويل الرقبة ومتعدد الألوان وإن كان يغلب عليه لون التراب الأحمر، فريد لا مثيل له ويعيش الواحد منه بين 500 إلى 1000 عام، وفي نهاية حياته يجثم على عشه في استكانة وغموض ويغرد لآخر مرة في حياته الراهنة بصوت خفيض حزين إلى أن تُنير الشمس الأفق، وهو عن الحركة عاجز فيحترق ويتحول رماداً، وهو يصدر أصواتاً تبدو أقرب إلى الأصداء. وعندما يكون الجسد الضخم قد احترق بالكامل، تخرج يرقة صغيرة من بين بقاياه وتزحف في دأب نحو أقرب بقعة ظليلة وسرعان ما تتحول إلى طائر الفينيق التالي".

بفضل ذلك "أصبح طائر الفينيق الذي يخرج من رماد الحريق، صورة تستمد منها البشرية دروسا في التحدي والتجدد والاندفاع، ورمزا تتعلق به، وتميمة ترد عنها السوء وتمنحها قوة أسطورية لا حدود لها".

ما يجعلنا نربط بين الإثنين: الشعب الفلسطيني وطائر الفينيق هو تاريخ هذا الشعب المكافح، والذي تعرض لما يشبه الإبادة أكثر من مرة في تاريخه المعاصر، لكنه يعود مرة أخرى من جديد أكثر قوة وأشد إصرارا على إكمال مسيرته، مدركاً مسبقًا حجم التضحيات الكبير، وثمن المقاومة الباهظ.

ففي العالم 1948، مارست عصابات العدو الصهيوني جرائم تهجير عجز عن وصفها من تابعوا أحداثها، لكن الفلسطينيين واجهوا كل تلك الإجراءات، وصمدوا في وجه كل محاولات اقتلاعهم من جذورهم، وتناسلوا، وحافظوا على هويتهم، وتحدوا الاستيطان، بكل أوجهه القبيحة، واليوم، وكما تقول الإحصاءات الرسمية الصادرة عن دوائر العدو، يبلغ "عدد السكان داخل حدود دولة إسرائيل والمستوطنات نحو 8,793,000 نسمة، منهم 6,556,000 مواطن يهودي يشكلون 75% من سكان إسرائيل، و1,837,000 مواطن عربي يشكلون 21% من السكان، بالإضافة إلى 400,000 مواطن مسيحي غير عربي. ويتوقع وصول عدد سكان إسرائيل إلى 10 ملايين نسمة في أواخر سنة 2024، و15 مليون نسمة في أواخر 2048، و20 مليون نسمة في أواخر 2065."

ومنذ العام 1948، عرفت الثورة الفلسطينية أكثر من محاولة تصفية، لعل آخرها، وأكثرها حضورا في الأذهان ما تعرضت له الثورة الفلسطينية خلال الغزو الصهيوني للعاصمة اللبنانية بيروت في العام 1982، وما رافقها من هجمات لزرع بذرة الشك بإمكانية صمود الشعب الفلسطيني في وجه الآلة العسكرية الصهيونية، التي لم تكن مجازر صبرا وشتيلا سوى المثال الصارخ لها.

لكن الشعب الفلسطيني، نهض مما تعرض له، ولعق جراحه، ونجح في فرض حقه في العودة، وإقامة دولته، التي مهما قيل عنها، تبقى كياناً سياسيًا قام بالرغم من رفض العدو لفكرته.

قائمة نهوض الشعب الفلسطيني من كبواته لم تعد حالات استثنائية، بل شكلت سلوكا وطنيا نلمسه يوميا في صراعه المستمر مع الكيان الصهيوني، وهو في ذلك شبيه بأسطورة طائر الفينيق الذي ينهض من رماده كي يكتسب قوة تعيد له الحياة، وتمده بما يحتاجه من إصرار كي يواصلها.

ذلك تماماً ما يُمارسه الفينيق الفلسطيني الذي يجعلنا، لا نؤمن بعدالة قضيته فحسب، بل يزرع الثقة في نفوسنا بأن انتصارها أمر لا محالة منه.