أحلام البسطاء.. وواقع الأثرياء

حمود بن علي الطوقي

تجاذبنا أطراف الحديث مع أحد الأصدقاء، وكان الحديث يدور حول ما يُقدِّمه أصحاب الأيادي البيضاء من أثرياء بلادنا من مساعدات، ودعانِي للمشاركة في إحدى المبادرات التي سيتمُّ الإعلان عنها لأحد الأثرياء.

حضرتُ المناسبة وغَمَرني الحَبُور، وأنا أتابع المشروع الخيري الذي تبرَّع به أحد أبناء عُمان، وقفتُ من شدة فرحي، وظللتُ أصفِّق احترامًا وتقديرا لهذا الثري الذي قرَّر أن يستقطع جزءا كبيرا من قطعة أرض يملكها، ويبني عليها مُجمَّعا سكنيًّا كمبادرة منه لأبناء وطنه، ويحوي مساكنَ للشباب بمواصفات عالمية، وقرَّر أن يُقدِّم هذا المشروع بعد اكتماله لوزارة التنمية الاجتماعية؛ لتتولى بدورها توزيع المساكن على مستحقيها.

كنت قبل -وأثناء- مشاركتي في المؤتمر الصحفي الذي أزاح خلاله هذا الثري الستار عن مشروعه، أسيرًا لتجاذبات قوَّتِي التصديق والتكذيب بداخلي.. ولكن بعد أن تابعت العرض المرئي حول هذا المشروع الإنساني الكبير، وبعد أن تحقق الحُلم، نظرتُ إلى زميلي الصحفي الذي كان يجلس بجواري، وهمستُ في أذنه: "البلد بخير"، خصوصا بوجود أمثال هذا الرجل من المخلصين.

خرجتُ مسرعا وأنا أدوِّن هذا الخبر على حسابي في تويتر، وبعد لحظات اشتعلتْ شبكات التواصل الاجتماعي بردود إيجابية تقدِّر مكانة هذا الرجل الذي وهب ماله لإسعاد الناس.

... أحد الردود التي أثلجت صدري، أنَّ ثريًّا آخر من أبناء بلدي بَنَى على نفقته الخاصة مركزا لرعاية أطفال التوحُّد، وقدم دعمًا سخيًّا لهذا المركز، وقد أرفق هذا المغرِّد صورَ الأطفال وهم يتلقون الدروس من قبل إخصائيين يملكون خبرات تراكمية.

تهللت أسارير وجهي وأنا أتابع تلك الردود المبشِّرة بالخير.. خصوصا وأن ردًّا آخر حمل بُشرى تبرع أحد الأثرياء بأحدث أجهزة الكشف المبكِّر عن مرض السرطان، وأن هذا الجهاز حاليا يُستخدم بالمستشفى السلطاني، وأنه ساهم في الكشف المبكر عن هذا المرض اللعين.

"الحمد لله بلادنا بخير".. هكذا ظللت أردد، وأنا أرى هذا الخير العميم، وتلك الردود التي انتشرت في شبكات التواصل الاجتماعي احتفاءً بتلك المبادرات الفردية التي لطالما حلُمنا بأنها حتما سوف تتحقق.

عُدتُ إلى منزلي، وقرَّرت أن أستخدم طريقا آخر علَّني أكتشفُ بعضَ الإنجازات، وفعلا رأيت لائحة لمشروع بناء حديقة عامة، اتصلت بالرقم المدوَّن في الإعلان لأستفسر عن هذه الحديقة، وكان الرد أنَّ رجلَ الأعمال البارز (...) قرَّر أن يبني حديقة عامة؛ مُساهمة منه، وردا لجميل هذا البلد المعطاء. ظللت أردد: "هذه هي عمان... أرضُها لا تنبت إلا خيرا".

وفي أثناء ذلك، جاءني اتصال من زميلي، يُخبرني فيه بمَوْعد مؤتمر صحفي سيكشف خلاله ثريٌّ جديد عن برنامج لتبني دراسة 100 طالب من ذوي الدخل المحدود لتكملة الدراسة الجامعية في أرقى الجامعات الأمريكية والأوروبية. وبعد أن أغلقتُ الهاتفَ، تناولتُ صحيفة من مكتبي لأتصفح الأخبار الجميلة، ولفتَ نظري خبرٌ مفاده انخفاض معدلات الوفاة نتيجة الحوادث المرورية، ومن بين السطور ذُكِر تبرُّع رجلُ أعمال ثري بأكثر من 100 سيارة إسعاف مُجهَّزة بأفضل التجهيزات لنقل المصابين. وفي صفحة مُقابلة، نَشَرت إحدى الشركات إعلانًا بتبنِّي تدريب 500 طالب وطالبة من خريجي الثانوية العامة، وأنه سيتم منح مكافأة مالية سخية للملتحقين في هذا البرنامج، وبعد فترة انقضاء التدريب سيتم تعيينهم في مواقع مختلفة من الشركة.

وفي حين كنتُ في قمَّة سرور بين هذا الكم من الأخبار التي جاءت تَتْرَى، طرقَ بابُ منزلي طارق، فتحتُ البابَ، وإذا بعامل نظافة يطلب توقيعي على استمارة فحواها أنَّ رجلَ أعمال بارز تبرَّع بنقل المخلفات المنزلية كل يوم؛ حيث سيتم بناء حاويات لإدارة الفضلات. أغلقتُ البابَ، وجلستُ مشدُوْها من هذه الوجبة الدسمة من الأخبار المشرِّفة والتي تدعو حقا للفخر. قررت أن أفتح التلفاز لمتابعة الأخبار، وما إن فتحت حتى وقعت عيني على شريط الأخبار، طالعت فيه: "ارتفاع الدخل القومي بسبب التزام الشركات بدفع الضرائب المفروضة". في الوقت الذي كانت تنقل فيه قناة "عمان مباشر" خبر تدشين المشروع الوطني لإعادة بناء القرى والحارات العمانية القديمة، واللافت من الخبر أنَّ ثريًّا عمانيًّا قرَّر أن يتبرَّع لإعادة بناء هذه القرى القديمة وتحويلها إلى مواقع سياحية.

لا أدري، لماذا يشنُّ البعض هجومًا على أثريائنا رغم تلك الجهود والمساهمات المهولة التي تبعث على الفرح والسرور، والاطمئنان على مستقبل هذا البلد الخيِّر.

هممتُ بالخروج متوجِّها لعملي، وبالقرب من مسكني وقبل ركوب سيارتي، رأيتُ رجلَ أعمال تربطني به صداقة؛ فتوقفت للسلام عليه، وكان برفقته مجموعة من المهندسين والخبراء، قال لي: "اشتريتُ هذا العقار، وأريد أن أحوِّله لدار للمسنين، وسوف أبني في الخلف عيادة ومركزا صحيًّا لرعايتهم، وفي الجزء الأمامي سوف أبني حديقة صغيرة، وسوف يلتحق للعمل في هذا الدار خبراء من ألمانيا وممرضات من تايلاند والفلبين، وسوف أقوم بتعيين مدير للدار بحيث يكون عمانيًّا، وسوف يكون هذا الدار الأول من نوعه في دول المنطقة".

شكرته على مبادرته الإنسانية، وذكر وهو يودِّعني أن أخاه رجل الأعمال (...) قرَّر رَصْف طرق إحدى القرى الداخلية، وسوف يقوم بالتبرع لإنارة هذه الطرق. وقال بالحرف: "هذا واجب علينا أن نرد ولو شيء يسير لهذا الوطن؛ فأفضال البلد علينا كثيرة، وجاء الدور أن نرد الدين، ونسهم بأموالنا من أجل بناء عُمان".. قلتُ له: "هذه هي عُمان، تتنظرُ منكم الخير الوفير".

وانصرفتُ متجهًا إلى سيارتي وأنا أفكر وأفكر وأُمعن في التفكير. طلبت منه خدمة علّه يساعدنا، قال: تفضل، قلت له: نحتاج في مسجدنا إلى ثلاجة ماء ليروي المصلين. نظر إليَّ وهو ينظر إلى ساعته، وطلب مني أن أكتب له الطلب وسينظر في أمر تبرع ثلاجة لمسجدنا الصغير.

وفي أثناء ذلك، سمعتُ صَوْتًا يُنادي مكبِّرا: "الله أكبر.. الله أكبر". فانتبهتُ، إذا بي فوق فراشي، وإذا به صَوْت مؤذن المسجد الذي بجوار منزلي، يؤذن مُعلنا صلاة الفجر.

ربما تندهشُ عزيزي القارئ أن هذه الكلمات نفسها، بتصرُّف بسيط، نشرتها في هذه الزاوية قبل أكثر من 3 أعوام، وكُنت أظنُّ وقتها أنَّ المقالَ سيُحقِّق تغييرا مجتمعيا، لكنِّي أجدُ نفسي بعد هذه الفترة الزمنية في نفس المكان، والمجتمع لا يزال يراوح مكانه؛ فلا أثرياء تبرعوا، ولا أغنياء قدَّموا للوطن ما يردون به الجميل، ولا مسؤولية اجتماعية انعسكت على واقعنا كما نأمل.. كُلي أمل ألا اضطر إلى إعادة نشر هذا المقال بعد 3 سنوات أو حتى بعد شهر.

هذا ندائي بعلوِّ الصوت إلى أثرياء وطني، بألا تبخلوا على هذه الأرض الطيبة، وأن تُسهموا بما يمكنكم من خدمة وطنكم بصورة إيجابية، تؤكِّد شراكتكم مع الحكومة ومؤسساتها.