نغم الحياة القاتل


أحمد عصام | مصر
تخطت عقارب الساعة تمام الثالثة. والثالثة كانت هي موعد «أمجد السعيدي» مع طبيبه المعالج. لم يهتم لهذا التأخر. وعلى الرغم من حرارة الجو و الإنهاك البادي على وجهه النحيل المتعرق، إلا أن نظرات عيني أمجد الساكنتين نمّت عن سعادة و رضا. احتمى من قيظ الشمس بظل شجرة وارقة على كورنيش النيل. لم يعكر صفو عقلة و سكينة نفسه ما كان حوله من ضجيج المرور، فتلك المنطقة التي عرجت قدماه عليها تلقائيًا، قد شهدت أغلب أيام شبابه و كهولته. فها هي دار الأوبرا المصرية أمامه. ذلك المكان الذي طالما ذهب إليه مع والديه مرغمًا في صباه ليحضر دروس الموسيقى و عزف آلة الكمان. لم يكن يدري في وقتها أنه سوف يهيم بالموسيقى عامةً و بمعزوفات الكمان خاصةً. فلم يجد غير الموسيقى ملاذًا من الحياة المليئة بالقسوة و الأسى. فكانت هي مهربه من ألم انفصاله عن أول محبوبة. ووقفت بجواره بعد فراق والده و والدته. واحتضنته بعد وفاة زوجته. أعتصر الحزن قلبه لوهلة بعد تذكر كل تلك الآلام. ولكنه سرعان ما تذكر أنه كما كانت الموسيقى علاجًا ناجحًا، فهي لم تبخسه مقابل وفائه          و جهده إطلاقًا. فتذكر أول مرة أُشرِك فيها وسط الأوركسترا أمام الجمهور. كيف لم يستطع السيطرة على ضربات قلبه المتسارعة و أنفاسه المتلاحقة، وعينيه اللتين لم تستطيعا التوقف عن الانتقال بين أبيه و أمه الجالسين في مقدمة الحضور. لم تهدأ سريرته حتى إنتهاء العزف و إنفجار الجمهور بالتصفيق و كلمات الاستحسان               و التشجيع. وتذكر أيضًا كيف لم يلبث أن تعود على الوجود أمام الجمهور بدون رهبة أو خوف، حتى أخبره المايسترو بقراره الذي كان له وقع متباين، شتت روحه بين الفرحة و التوتر. فقد تم اختياره ليكون قائد عازفي الكمان في الأوركسترا، على الرغم من وجود من هم أكبر منه سنًا و خبرةً. فعاودته سرعة ضربات القلب و تلاحق الأنفاس كلما أعتلى خشبة المسرح مع الرفاق، حتى اعتاد عليها كسابقتها. وكيف امتد به العمر مواظبًا على حسن الأداء و الاجتهاد في الدراسة، حتى صار قائدًا للأوركسترا، فمايسترو، فمعلمًا للشباب الساعي للترقي في سلم المجد الموسيقي الذي  يتضافر فيه الاجتهاد مع الموهبة.
اقتطعته مكالمة الممرضة من شروده، فرد عليها ردًا مقتضبًا، «حاضر. أنا آتٍ إليه. نعم، أنا في الطريق إلى العيادة بالفعل».
تحرك أمجد من تحت الشجرة. و أزال الغبار العالق بملابسه. ثم أوقف سيارة أجرة حتى تقله لعيادة الطبيب الواقعة في حي الزمالك.

*********************

دخل أمجد العيادة بخطوات وئيدة و أنفاس عميقة من أثر صعوده الدرج. وجلس على الأريكة في صدر بهو الاستقبال ذي اللون الأبيض و الأساس الخشبي الداكن المتسم بالبساطة. وأخذ يتأمل اللوحات المعلقة على الحائط أمامه و التي تتوسطها شهادات التخرج و الماجستير و الدكتوراة الخاصة بطبيبه «نادر شريف» الذي كان يصغره في السن بعام أو عامين. وكانت نفسه تضيق ذرعًا بكل هذه الشهادات مع اللون الأبيض مع انتظاره للطبيب -الذي و إن كانت نمت بينهما ألفة على مدار الأشهر الماضية- سوف يعيد عليه تعليمات الاهتمام بصحته كما يفعل في كل زيارة نصف شهرية. ولكنه انتظر حتى خرجت الممرضة من غرفة الكشف بصحبة مريض آخر، و أخبرته بأن دكتور نادر في انتظاره. فدخل إليه. فقام نادر من خلف مكتبه فاتحًا زراعيه مرحبًا بأمجد قائلًا، "أهلًا بالمايسترو العظيم. كيف حالك؟ و هل شعرت مؤخرًا بأية إنزعاجات؟!"
فرد عليه أمجد بصوت خفيض، «الحمد لله أنا بخير. أشعر بتحسن كبير. لا ألم يقارن بألم تلك الذبحة الصدرية. ولكني منذ تلك العملية لم يعاودني الألم و الحمد لله».
قاطعه نادر آمرًا، «ناولني ذراعك، فأطمئن على ضغطك!»
فمد له أمجد زراعه، واستكمل حديثه قائلًا، «أعاني من سرعة الإحساس بالتعب مع المشي لمسافات متوسطة، أو صعود بعض السلالم».
فهز نادر رأسه مهمهمًا علامة على متابعته لكلام أمجد.
فأكمل أمجد حديثه، «لا يضيرني إلا توقفي عن التدخين و الملل المصاحب لكل هذه التعليمات بالسكون و تجنب الحركة و المجهود حتى و إن كان بسيطًا!»
فرغ نادر من قياس الضغط و أعتدل في جلسته، ثم رد على شكوى أمجد قائلًا، «في البداية أحب أن أنبهك. ضغطك مرتفع. يبدو أنك لم تقلل من طول تلك المسيرات التي تدعوها بالمتوسطة. و يبدو أنك لم تستخدم المصعد كالعادة. يجب أن تفهم حرج حالتك. إن عملية القلب المفتوح التي قمنا بها لن تعيد قلبك لحالته السابقة، ولكنها تحيل دون وقوع ضرر إضافي له. والذي يساعدها على القيام بتلك الوظيفة هو الراحة التامة       و البعد عن التوتر و الالتزام بالعلاج الموصوف لك. يمكنك القيام بتمارين بسيطة ذات حدة متصاعدة مع مرور الوقت، ولكنه من الواضح أنك لن تنتظر!»
رد أمجد منزعجًا، «لقد أصبت بالضجر. لا يمكنك أن تلومني. أشتقت للوقوف على المسرح و العزف و قيادة الفرقة و إطراب الجمهور و الاستماع للتصفيق و المديح. لقد كانت هذه حياتي. لا يمكنك أن تلومني على ذلك!»
أكتسى صوت نادر بالأسى و هو يجيب بهدوء، «أنا أدرك ذلك كله. و أشعر بما تشعر به. ولكن الحفاظ على الصحة فيما تبقى من العمر أمر مهم».
سكت نادر برهة، ثم استطرد قائلًا، «يمكنك العزف منفردًا لبعض الوقت و التريض لمسافات متوسطة. ولكن أرجوك أن تتوقف عند الشعور بأول بادرة من التعب             أو الإجهاد. ولكن لا يمكنني السماح لك بالعودة للتدخين على الإطلاق!»
وجه له أمجد نظرة مليئة بالأسى، وتمتم بكلمات تزعم الانصياع لتوصياته دون أن يضمر أية نية حقيقية لذلك. ثم شكره و غادر العيادة، ووجهه تكسوه ملامح تصرح عن عزيمة و ثورة. و استقل سيارة أجرة و طلب من سائقها التوجه إلى محل سكنه.

*********************

مع الصباح التالي، دبت في يوم أمجد حيوية غير معهودة. فبمجرد استيقاظه من النوم، قام ببدء تشغيل معزوفة «بحيرة البجع» على جهاز التسجيل خاصته. فانسابت الألحان في فضاء البيت المجهز على الطراز الفيكتوري فغشى الجو سحر خاص. فتخيل أمجد نفسه على المسرح يوجه الموسيقيين خلال عزفهم. وظل يستمع لها، بداية من الفطور مرورًا بالتدريبات الرياضية الخفيفة التي أمره الطبيب بها. ولم يوقف التسجيل إلا بعدما تذكر موضع كل نوتة موسيقية منها. وعندما دقت الساعة معلنةً تمام الثانية، استحم أمجد. ثم توجه إلى غرفته، و أخرج بدلته الرسمية السوداء و قميصة الأبيض و البابيون البيضاء، وأخذ يتأمل فيهم بضع دقائق. ثم شرع في ارتداء ملابسه. وقف أمام المرآة يصفف شعره الأبيض و يحكم ربطة البابيون حول عنقه. ونظر لنفسه نظرة طويلة. وارتسمت على شفتيه ابتسامة طفل عابث. ثم وجه الكلام لنفسه مازحًا، «أنيقٌ كعادتك. أنت تستطيع أن تقوم بالمهمة على أتم وجه كما اعتدت دائمًا!»
نزل أمجد من شقته. واستقل سيارة أجرة إلى دار الأوبرا.

*********************

وصل أمجد لدار الأوبرا. وبمجرد أو وطأت قدماه ما داخل البوابات من أراض، حتى انهالت التحيات و التمنيات بالشفاء العاجل و الأماني الطيبة بدوام العافية من كل من قابله من العاملين و الفنانين. وكان يرد عليهم بابتسامات خفيفة و هممات شكر. وسرعان ما وصل إلى مكانه المفضل، حيث يتم التدريب على العزف قبل العرض. وبمجرد دخوله القاعة، أحاط به جميع العازفين و الفنيين محتفين بعودته. فشكرهم جميعًا. ثم توجه إلى مكتب المايسترو حيث يجلس المايسترو البديل يراجع ما ينقصه من نوتات عرض الليلة الافتتاحي لبالية «بحيرة البجع». وما أن رآه حتى وقف في احترام. و هم أن يرحب بأمجد و يسأله عن صحته، إلا أن أمجد استوقفه قائلًا، «أنا الحمد لله في تمام العافية يا محمد. ولكني جئت اليوم لأطلب منك طلبًا».
فرد عليه زميله محمد، «بكل تأكيد ما دام في استطاعتي. ما هو؟!»
استجمع أمجد قوته ثم قال، «أنت تعلم أني قد قضيت معظم حياتي على مع الأوركسترا. قدمنا العديد من العروض. ومع مرور الوقت تتوحد مع الألة و الفرقة و المسرح، فتصير هذه حياتك. وفي الفترة الماضية، سُلبت هذه الحياة مني. وإني لمشتاق يرجوك اليوم أن تسمح لي بالعودة لقيادة الأوركسترا الليلة، فتدب في الحياة من بعد يأس».
تأثر محمد بحديث أمجد. وبدا هذا التأثر جليًا في نظرته الشاردة. ثم استجمع شتات أفكاره ورد قائلًا، «أنا لا مانع عندي بالطبع. ولكن هل سمح لك الطبيب بالعودة بالفعل؟ أم أن الملل و الشوق قد فعلا بك الأفاعيل؟!»
فرد أمجد بسرعة أظهرت تحمسه، «نعم سمح لي بالعودة بالطبع!»
 فابتسم محمد و ربت على كتف أمجد. ثم داعبه قائلًا، «الأوركسترا طوع بنانك يا مايسترو».

*********************

قبل بداية العرض دخن أمجد سيجارة، ثم اجتمع مع كل عازفي الأوركسترا و وجه حديثه لهم قائلًا، «قد أبدو لكم واهنًا زائغ النظرات، لكن أذناي تعملان بشكل جيد. أي خروج عن النص أو خطأ غير مقصود أثناء العزف لا يعتبر وصمة عار على جبين العازف وحده، بل الفرقة كلها. قد يتساءل بعضكم، لمّ أنا هنا على الرغم من أن فترة نقاهتي لم تنته بعد؟ أنا هنا كي أستمتع. و هذا هو ما جاء الحضور اليوم من أجله. لا أطلب منكم إلا أفضل أداء ممكن. لنستمتع سويًا و لنعطِ جمهورنا ليلة مميزة ربما لا تتكرر ثانيةً!»
ابتسم الجميع و تبادلوا كلمات التشجيع. ثم أخذوا آلاتهم وتوجهوا لمكان الموسيقيين أسفل المسرح. وما أن دقت الساعة الثامنة و حان موعد بدء العرض حتى خرج أمجد ليتخذ موقفه أمام الأوركسترا يصاحبه تصفيق الجمهور الذي ملأه بشغف و حماس يضاهي حماسه في أول ليلة اعتلى فيها خشبة المسرح.
يبدأ العرض برقص البالية تصاحبه موسيقى هادئة تأسر القلوب و تخلب الألباب. وكلما يمر الوقت، تتعقد خيوط القصة و تتعالى الموسيقى معبرة عن جوانب الصراع. مما خلب لب أمجد و سيطر على حواسه. فأخذته الحماسة الفياضة، التي ظهرت في حركته السريعة المتشنجة على جوانب موقفه مشيرًا لمختلف العازفين منظمًا أدوارهم فيما بينهم و مع حركات الراقصين على المسرح كذلك.
بانتهاء الفصل الأول كان وجه أمجد قد كسته طبقة سميكة من العرق، عدّها الناس من فعل حرارة الجو و حماسته المفرطة التي عكست شغفه. يقفز و يتحرك هنا و هناك، يتطاير شعره الأبيض حول رأسه خالقًا هالة كالتي تميّز القديسيين في الفن القبطي، يزوم بين الفينة و الأخرى ناهرًا عازف تخلف عن زملائه. شعلة من الحيوية أمام المسرح. ومع تقدم العرض و تطور الأحداث، تزداد حدة الموسيقى و تزداد حركات و تشنجات أمجد. و ازدادت حركته حتى بدأ يشعر بالألم يعتصر جوانب صدره إلا أنه تجاهله محدثًا نفسه بأنه ما بقي إلا فصل واحد. وما زاده إصرارًا على استكمال العرض هو الحماس الجارف الذي أبداه الجمهور من تصفيق و آهات و كلمات التشجيع من مختلف اللغات. فعلى الرغم من آلامه، كانت شعلته تزداد حيوية و لمعانًا.
بدأ الفصل الأخير هادئًا فلم يتطلب مجهودًا كبيرًا من المايسترو المتحمس. مما جعله يظن أن بإمكانه الإكمال بدون التعرض للتعب. إلا أن تسارع النغمات قد استدرجه لما لا يحتمل. فبدا الألم على وجهه، فامتعضت ملامحه. ولكنه أكمل حتى النهاية. وعلى الرغم من المجهود المبذول إلا أنه قد تحامل على نفسه حتى يستطيع تحية الجمهور بعد راقصي الباليه.
صعد أمجد على المسرح، ثم انحنى ليحيهم بعد نهاية العرض، ولكنه لم يستطع أن يرفع نفسه ليقف مرة أخرى. انهار الجسد الذي دفعه صاحبه لأبعد مما يحتمل. فاستند على أقرب قطعة ديكور له و جلس على ركبتيه ناظرًا نحو الجمهور -الذي تحول من التصفيق المنبهر للصمت الواجم- بابتسامة واهنة قبل أن يستلقي على الأرض معلنًا توقف قلبه عن العزف.

*********************

 

تعليق عبر الفيس بوك