سيميائية العنونة فى ديوان "لاشىء" للشاعر طالب المعمرى


إبراهيم محمد الهمدانى | كاتب وناقد من اليمن
     يعد المنهج السيميائى من اهم المناهج النقدية الحديثة ، و لا تكمن أهميته فى جدته وحداثته فحسب ،بل فى مرونته وشموله وقدرته على استيعاب النصوص الإبداعيه بمختلف مضامينها وتشكلاتها المتعددة، وبذلك فهو يفتح آفاق القراءة أمام القارىء متجاوزا التركيب اللفظى والتشكيل النصي الكتابي والمضمون الدلالى والتشكيل البصري ، الى فضاءات أوسع وأكثر شمولاً ،تقيم علاقة تجاذب مع النصوص فى عملية محاور واستنطاق ، تتجاوز الإجابة على الأسئلة التقليدية عن كيف قيل النص وما الذى قاله إلى محاولة اكتشاف ماالذي لم يقله النص.
ومن هنا تأتى دراسة العنوان فى ارتباطه بالسيموطيقا ، انطلاقا من كون العناوين أنظمة دلالية سيمولوجية تتضمن الكثير من القيم الأخلاقية  والاجتماعية والأيديولوجية والثقافية ، وعادة مايشير إليها العنوان بوصفها محمولات دلالية يكنزها فى طياته ، وقد حظى موضوع سيمياء العنونة باهتمام الكثير من الدارسين والباحثين والمتخصصين والنقاد العرب ، لعل أشهرهم الدكتور محمد فكرى الجزار والدكتوربسام قطوس والدكتور محمد بنيس وغيرهم كثير، سواء من تناوله من منظور دلالي أو من منظور وظيفى، وهذا المنظور الأخير هو مانص عليه جاكبسون فى حديثه عن وظائف اللغة التواصلية ، حيث اكتشف عدة وظائف للغة كانت بمثابة الحافز للباحثين فى توظيفها والافادة منها .
حدد جيرار جينيت للعنوان أربع وظائف هى الإغراء والإيحاء والوصف والتعيين ، جاعلاً من العنوان عتبة النص - نصاً موازياً ومكتنزا محمولاته الدلالية ، حيث يمثل العنوان أعلى اقتصاد لغوى ، وهو أول ما يجابه المتلقى ، و لذلك يجب أن يحظى بعناية فائقة ودراسة عميقة شاملة قدر الإمكان.
  (لاشىء) بهذا العنوان الذى يتوسط صفحة الغلاف يقابلنا الديوان ، وتحت العنوان الذى كتب بخط بارز تحت اسم الشاعر ، تتوسط لوحة الغلاف ، وهى عبارة عن مكواة تعيد رسم الصحراء وتزيل تجاعيدها والتواءتها ، حيث تحتل الصحراء فى اللوحة معظم الفضاء المكانى وفى أقصى الأفق ترتسم السماء الزرقاء مع بصيص ضوء كأنه بزوغ الفجر ، وتحت لوحة الغلاف وضع التحديد الأجناسى لمحتوى الكتاب وهو شعر ، لتنبيه المتلقى أو إخباره بأن المحتوى شعرى .
يتركب العنوان (لاشىء) من لا النافية للجنس مع الاسم (الشىء) المستغرق فى النفى ، أى أنه لا يوجد شىء أو لا شىء يستحق ، لا شىء هنا ، إلى غير ذلك من المدلولات التى يحملها فضاء التلقى ويجبر القارىء على استنباطها والمشاركة فى إعادة إنتاج النص وإبدالاته ، وبهذه الوظيفة الإغرائية استطاع العنوان أن يجبر القارىء على المداخلة والاستنطاق والمحاورة وأكثرمن هذا استطاع أن يثبت عكس نفيه ويؤكد أن هناك شيئاً ما  وحقيقة ما ، يجب على القارىء اسنباطها واكتشافها وسبر أغوارها .

(لاشىء ... قدمك تخيب الوصول والعالم صحراء)
بهذا النص الموغل فى العدمية يجابهنا الشاعر جاعلا عملية القراءة والكشف أكثرإثارة وخوفا وشوقا فى الوقت ذاته ، راسما مسارات لا نهائيه الضياع فى صحراء مترامية الأطراف يخيب أمل الأقدام فى تجاوزها .
(لا لغة .. لا جواب
الوقت ريح تراب
نمضى  ..نجول
وفى يدنا حفنة من تراب) الديوان ص7
يزداد الإيغال فى العدمية والضياع حين تنتهى وتنتفى اللغة وينعدم الجواب ويصبح الوقت عبارة عن ريح تراب ، وكل مانملكه فى مسيرتنا الطويلة تلك لايعدو كونه حفنة من تراب ،وبهذا يتقابل الوجود والعدم والفراغ والامتلاء وتهيمن دلالة السكوت عنه ، لتصبح الأرض / الوطن - فى معادلها الدلالى - حفنة تراب - هى أغلى ما نملك وهى حقيقة وجودنا وبقائنا وارتباطنا بهذه الحياة .
   يحمل النص الأول عنواناً ذا دلالة إيحائية ووظيفة وصفية (عينك غريبة ) ص9.
فى تشكله التركيبى من جملة إسمية إخبارية تليها الصفة ( غريبة ) ، ووصف العين بالغرابة يوحى بغرابة الإنسان صاحب العين وغربته فى واقعة ومحيطه ، غير أنه أكثر لطفاً وحميمية مع المكان والمحيط الاجتماعى فجعل عينه هى الغريبة ، وهى المخطئة فى رؤية الاشياء ، وليس العالم من حوله هو الذى تغير ، خاصة حين يرتبط مضمون النص بمقولة جلجا مش (انا من عاش ورأى) بما تكنزه أسطورة جلجامش من أبعاد فلسفية ودلالية لانهائية .
" احتمالات " ص13 يتركب هذا العنوان من جملة إخبارية تفيد التعيين والتخصيص والإشارة إلى مخصوص بعينه ، أى "هذه احتمالات "، ورغم ماتحمله دلالة التركيب الإشارى من قيود على الدلالة ، إلا أن دلالات كلمة " احتمالات " ذاتها تفتح الأفاق واسعة أمام التأويل والافتراضات اللانهائية ، غير أنها تظل أولا وأخيرا - فى إطار الاحتمالات التى قد تقبل التحقق وقد لا تقبل .
" الظاعن فى السر " ص15 يقوم هذا العنوان على مستوى عالٍ من اللعب اللغوى و الدلالى وكسر أفق التلقى ، الذى قد يوهم للوهلة الأولى أن المقصود هو " الطاعن فى السن " أى الشيخ العجوز ، لكن الاشتغال على التشاكلات والتشابهات اللفظية ، منح العنوان شعرية جميلة جداً ، خاصة حين يكون المعنى هو المرتحل فى السر ، بما يحمله من دلالات الارتحال ومستوياته ووصولاً إلى المعنى الشامل بوصف الحياة هى الرحلة الكبرى ، والسر الذى لا يمكن بلوغه أو الإقامة فيه .
" تخشاك العزلة ""ص16 يسعى هذا العنوان إلى أنسنة الأشياء ، أو إكسابها صفات إنسانية تخرجها عن مدار تشكلها الأصلى وطبيعتها الوجودية ، فبدلا من أن الإنسان يخشى العزلة ، أصبحت العزلة هى التى تخشى هذا الإنسان ، فى صورة أشبه بالتراجيديا المبكية لفرط ماتعانيه الذات من غربة واغتراب وعزلة قاتلة .
" جدار الحياة "ص17 تتحول الحياة من فضاء مفتوح إلى حيز مغلق بجدار حائل عن التواصل والاتصال ابتداءً من الداخل النفسي الشعوري وصولاً إلى الخارج الفضاء الواقعي المرتسم بالحدود الجغرافية والتصنيفات الجهوية والعرفية والطائفية والدينية ، وغيرها من الجدران المعيقة للتواصل الإنسانى ، والمشوهة لطبيعة الحياة الأولى.
" لحية والت وايتمان "ص19يحضر الشاعر والسياسي الأمريكي والت وايتمان بصفته الإبداعية ومكانته الشعرية ودوره فى ريادة قصيدة النثر فى الغرب خاصة فى ديوانه (أوراق العشب ) كما يحضر فى الشعرية العربية من خلال تاثيره الممتد فيها عبر الشاعر أمين الايحاني فى ديوانه " هتاف الأدوية " الذي حاول من خلاله كسر رتابة الإبداع الشعري العربي آنذاك وإخراج الشعرية العربية من فلك التقليد و الصنعة .
"ساحة رامبرانت "ص21 يحضر المكان بمدلولاته التعيينية مرتبطاً بشواهد مثل (النبع ، الصحراء ، والأنهار ) وبشخصياته ( فان جوخ وسبينوزا ) فى تعانق خطى متوازي بين الإنسان والمكان مؤكداً العلاقة الوثيقة بينهما .
" حب يذوى "ص22  يدل هذا العنوان على حالة إخبارية تصف حالة من الحب الذى ينهار ، وبإنهياره تنهار كل معانى الحياة وقيم الإنسانية ، وتذوى معه الأحلام والآمال والتطلعات بغدٍ مشرق وجميل ، لكن ذلك الانهيار المتصاعد يصاحبه ، شعور بخطورته الحتمية ، ومحاولات دائبة لتفاديها وتجاوزها من خلال الاستعانة بالشعلة والضوء .
" ساكسفون "ص25 تنبعث الموسيقى من بين كل ذلك الركام الحياتى ، ومشاغل الحياة ومصاعبها ومشاكلها ، لتخلق معادلاً موضوعياً للوضع القائم ، وحياة بديلة ، تلجأ الذات إليها فراراً من صخب الحياة وجنونها .
" شداد الوظيفة " ص26 تحمل الوظيفة الوصفية لهذا العنوان الكثير من الإيحاءات الدالة على رتابة الحياة وروتينها القاتل ، الذى يصيب الذات بحالة من الهلع وهى ترى العمر يمضى وينقضى ، بينما هى مازالت حبيسة الروتين الممل ، تسير بوتيرة واحدة وخطى متثاقلة ، يغلب عليها التكرار اللانهائى .
" حياة تحتاج إلى حياة "ص40 يوحى هذا العنوان بحالة من عدم الرضى عن الوضع الراهن كونه لا يغرى الذات بالبقاء فيه ، ولم يحقق لها أدنى متطلباتها ، ونظرا لصعوبة تغيير المسار العام للحياة البشرية بشكل عام ، تلجأ الذات الى اختراق الحياة العامة ، باحثة عن حياتها الخاصة داخل الحياة العامة .
" خارج السرب "ص43 يكتنز هذا النص بالكثير الكثير من الرؤى الفلسفية التى اقتنصها الشاعر وقام بتوظيفها بإسلوب إبداعى منحها الجمال والشعرية والروعة الفائقة .
اذا كان التغريد خارج السرب يدل على الاختلاف الممقوت ومفارقة  الجماعة كما يقال ، فإن الشاعر قد أعطى الخروج عن السرب جمالاً فائقاً ، كونه خروجاً عن مألوف التفاهة والتكرار ، وسيادة الانغلاق والتقوقع ورفض الآخر ، مؤكداً أن ( حدود المعنى موت وحدود التأويل حياة ) .
" ماء الأسفار "ص67 يحمل هذا العنوان الكثير من الدلالات الإيحائية ، التى يتموضع السفر فى طياتها بمستوياته المختلفة ، ابتداءاً من سفر الذات فى الداخل الإنسانى ووصولاً إلى السفر الوجودى الخارجى ، إضافة إلى ما تحمله مدلولات كلمة (ماء) من معانى الحياة والخصب والنماء والاستمرار ، لتكون الحياة الحقيقية هى فى السفر والترحال .
-اكتفى بهذه النماذج فى هذه القراءة السريعة التى تناولت فيها مدلولات العناوين فى نماذج مختارة من الديوان ، وكيفية توظيف العناوين ، ومقدرة الشاعر الفائقة على ذلك التوظيف الشعرى الأكثر من رائع ، حيث تمازج الوجودى بالعدمى ، والشىء باللاشىء ، والحياة بالموت .......الخ ، فى لعبة متناهية الروعة والاقتدار بمفردات اللغة ومدلولاتها واكسابها معانٍ جديدة من خلال تموضعها الشعرى الجديد فى الديوان .
وبهذا يكون الشاعر قد قدم إضافة نوعية وكبيرة على مستوى الإبداع الشعرى العمانى خاصة والشعرية العربية عموماً ، مؤكداً صلاحية نموذج قصيدة النثر فى الشعرية العربية وواضعاً أسس ومعايير جديدة لإعادة توطينه متجاوزاًكل تلك العوائق والحواجز والعقبات مؤكداً إنسانية الإبداع وعالمية الشعور .
..........................................

•    لا شيء - طالب المعمرى - دار سؤال للنشر -لبنان - بيروت - ط 1 - 2017 م .

 

تعليق عبر الفيس بوك