المعنى وظلال المعنى في "الدَّم وفلسفةُ النَّدمِ لـ"عمر هزاع"



د. أمل سلمان | العراق

أولا: القصيدة:
الدَّم فلسفةُ النَّدم
لِلحَربِ فَلسَفَةٌ حَمراءُ..
نَختَرِطُ
بِها؛ البَياضَ سَواداتٍ..
وَنَنخَرِطُ..
*
وَلا صَحِيحَ..
سِوى:
أَنَّ الجُنُونَ يَدٌ..
يَمُدُّها؛ لِصِراعِ الإِخوَةِ؛ الغَلَطُ..
*
دَمٌ دَمٌ هَهُنا..
أَيضًا..
هُناكَ دَمٌ دَمٌ..
دَمٌ طَرفانا..
وَالدَّمُ الوَسَطُ..
*
مِن نُقطَةِ الـ(ـنَّـ)ـدَمِ الحَمقاءِ
قَد نَبَتَتْ لِلأَبجَدِيَّةِ؛ حَولَ الأَحرُفِ؛ النُّقَطُ..
*
كُنَّا نُحَلِّقُ..
كانُوا يَلحَقُونَ بِنا..
وَحِينَ قِيلَ: (اهبِطُوها)..
كُلُّهُم هَبَطوا..
*
- أَما اكتَفَيتُم؟!
"وَسادَ الصَّمتُ, وَالتَفَتُوا نَحوَ الضَّحايا, فَثارَ الهَرْجُ وَاللَّغَطُ.."
*
- القاتِلُونَ بِأَيدينا سَنَقتُلُهُم
- أَتَفرُطُونُ عَلَيهِم؟!
- قَبلَنا فَرَطُوا..
*
- وَالضَّاغِطُونَ عَلى أَعصابِكُم؟
- سَقَطُوا..
- وَالسَّاقِطُونَ عَلى أَعقابِكُم؟
- ضَغَطُوا..
*
- وَما السَّبِيلُ لِلَأْمِ الجُرحِ؟
- قاصِرَةٌ عُرى الضّمادِ؛ إِذا ما قَصَّها الشَّطَطُ..
*
- فَكَّكتُمُ الوَطَنَ..
- التَّارِيخُ يَشهَدُ: لَم نَكُنْ لِنَفعَلَها؛ لَو أَنَّهُم رَبَطُوا..
*
- سَتَأكُلُ الحَربُ مِن أَبطالِكُم..
- أَكَلَتْ.. وَالآنَ؛ تَأكُلُ مِن أَطفالِنا القِطَطُ..
*
- قَدِ انكَمَشتُم بِقَعرِ الثَّأرِ..
- لَيسَ لَنا سِوى: التَّقَعُّرِ فِيهِ؛ بَعدَ ما انبَسَطُوا..
*
- بَدَأتُمُوهُم بِها..
- كَلَّا.. هُمُ ابتَدَؤُوا؛ وَلا تَراجُعَ.. حَتَّى يُخمَدَ السَّخَطُ..
*
- هَذا التَّمَنهُجُ؛ فِي التَّقتِيلِ؛ يَحصُدُكُم حَصدَ السَّنابِلِ..
- نِعمَ النَّهجُ! وَالنَّمَطُ!
*
- سَتَنتَهُونَ.. إِلى لا شَيءَ..
- فَلْتَكُنِ العُقبى.. إِذا ما انفَرَطنا.. أَو هُمُ انفَرَطُوا..
.............................................................
ثانيا - الدراسة:
لا أُخفَي القارىء الكريم سرا ،أني كلّما عاهدتُ نفسي أن اتفرغ لكتابة ابحاثي الخاصة وبعض انشغالاتي الأخرى ،تأسرُنِي لُّغة الجمالِ وائتلاف المتناقضات في قصائد المبدع عمر هزّاع ،واليوم اقفُ معكم على قصيدته "الدّم فلسفةُالنّدم ِ"محاولةً فكّ بعضَ شِفراتها وتوضيح بعض المَدارك الحسيّة والحَدسيّة وتماثلها وتناسق بنياتها الدّلالية ومكوناتها التشكيلية ،وتذليل بعض الصعوبات التي يلاقيها القارىء ،فهي من القصائد التي تتطلب تلقيا واعيا وذهنا رابطا .
فعمر شاعرٌ مَسكونٌ بالوجع على أمّة ضَيّعتْ مجدها التّليدِ وتأريخها العريقِ بأفعالها وصراعاتها الداخليّة إذ تضعنا بنية العنوان وهي أوّل المُثيرات القرائية التي تصدم عين المتلقي أمام ثنائية الدّم /النّدم تجمعهما فلسفة واحدة إذ نلحظ أنّ المبدعَ عَمد إلى لفظين قائمين على صوتين مُتحدين في نهايتهما ،مفترقين في زيادة فونيم صوتي واحد المُتمثل بصوت النون في كلمة النّدم ،وهذا ما يُسمّى في البلاغة العربية بالجناس المُكتنف ،الأمر الذي ولد فارقا دلاليا كبيرا واظهر اللفظين بشكل اوضح واعمق ،وصرف انتباه المتلقي إليهما وجعله يستحضر حاسة التوقع لديه لمعرفة العَلاقة بين السبب /الدّم والنتيجة /النّدم بحيث ألقى العنوان ظلاله على مُجمل القصيّدة وبهذا مثّل العنوان بنيةأسلوبيةضاغطة ومكوّنة لمتن النص وربُّما تتضحُ الصُّورة اكثر عندما نقفُ على البيت الرابع الذي يقول فيه :
من نقطة النَّدم الحَمقاءِ
قد نبتتْ للأبجديّة ،حول الأحرفِ
النقطُ ..
عن ايّ ندّمٍ يتحدث المبدع؟ يقودُنا هذا السُّؤال ألى مَطلع القصيّدة إذ يقول :
للحرب فلسفةٌ حَمراءُ
نخترط
بها،البياض سَواداتٍ
وننخرطُ
إذ نلحظُ تلك الخَلطة المائزة من الألوان المُتناقضة الأحمر والأبيض والأسود فالمبدع هنا لا ينظر ألى الألوان هذه نظرةً سطحيّة ،بل حاول أن يغوصَ في الأعماق ولكلّ لونٍ دلالته، فالاحمرعلى وفق ما أرى وهو محور القصيّدة جاء بدلالتين إحداهما : مباشرة يستوحيها القارىء من السياق نفسه إذ يشير إلى الحرب والقتل والضحاياوالبطش والارهاب وما إلى ذلك والاخرى :ضمنية إيحائية توحي بأساليب لجم شخصيّة الإنسان العربي وعدم إعطاءه حقه في ممارسة إنسانيته ووجوده بشكل طبيعي بدليل قوله :نخترط بها وننخرط
وخرطه في الأمر تعني أدخله فيه بحسب معاجم اللغة ،فنحنُ الشّعوب أُقحِمنا بفلسفة هذه الحروب لا نعرف لِمَ يقتلُ بعضنا بعضا أُورثنا ذلك الصراع منذ الخَليّقة ،ثم نجدُ اللونَ الأبيض الذي يُشير إلى الجمالِ والسّلامِ والنقاءِ فهو لون الصفاء وعدم سفك الدماء وربُّما يكون قد انحرف عن دلالته هذه ليشير إلى الكذب الأبيض _في العرف الإجتماعي كذب التأريخ علينا وزيفه وما هو بأبيض .ثم اللون الأسود حيث السجن والضياع والظلم والليل الذي لا ينتهي بفجر فتناقضات هذه الحروب مثل تناقض هذه الألوان ، ولكنَّ اللون الاحمر هو الطاغي في النهاية :دمٌ دمٌ ههنا
ايضا
هناك دمٌ دمٌ
دم طرفانا
والدمٌ بالوَسَط
فاعادة العنصر المعجمي الدم خمس مرات مع الاحتفاظ بالمدلول نفسه يعني ان المبدع يشير إلى الكيان نفسه في عالم النص وعندئذ يُدعم ثبات النص بواسطة هذا الاستمرار الواضح ،فيخلق أساسا مشتركا ويثير دلالات شعورية وموضوعية ،من اين جاء هذا الدم؟ ،أنّه صراع الإخوة الغلط وهذا ما نجده في البيت الثاني :
ولا صحيح
سوى:
أن الجُنونَ يدٌ
يمُدُّها ،لصراع الإخوة ،الغلطُ
وفي خِضمّ اللّوعة والوجع لا ينسى المُبدعُ مجدَ أمتّه :كنّا نُحلّقُ
كانوا يلحقُون بنا
وحين قِيلَ (اهبِطوا)
كلُّهم هَبطوا ..
فالعرب هم السابقون لكلِّ عريقة فنجدفي لفظتي حلّق _لحق ،فونيمات صوتية متشابهة على الرغم من اختلاف مواقعها وتخالفها في جناس مقلوب خلق نوعا من التلوين الموسيقي دلَّ على السُّرعةِ والحركة فنحن نحلّق وهم يلحقون بنا ..لكن تبقى العداوة والبغضاء في النفوس فالمبدع يحيل في لفظة اهبطوا إلى
قوله تعالى في سورة البقرة الآية ٣٦ "وقلنا اهبِطُوا بَعضُكُم لبعضٍ عدوٌ ولكُم في الأرضِ مُستقرٌ ومتاعٌ إلى حين " فالله تعالى قال :اهبطوا بعضكم ..وبالنتيجة كلهم هبطوا ..ومن هنا بدأتْ نقطة النّدم ِ
ويفتحُ المبدعُ فضاءَ النّص الشّعري على مصراعيه من خلال أسئلة مؤرقة
أما اكتفيُم ؟!
أتفرطون عليهم ؟!
وما السَّبلُ لِلأمِ الجُرحِ ؟
إذا كانت قاصِرةٌ عُرى الضّماد قصّها التّطرفُ والشّططُ
عكستْ هذه الأسئلة ما يعانيه المبدع من قلقٍ وخوفٍ وريّبةٍ وتمكّن من خلالها بالانتقال إلى ما يُسمّى في النقد المعاصر بمسرحة المتن الشعري يقول :
"وساد الصمت ،والتفتوا نحو الضحايا ،فثار الهرج والمرج "
فالضاغطون على اعصابكم
_سقطوا
والساقطون على اعقابكم
_ضغطوا
فنلحظ حِرفيّة المبدعُ في خَلق سلاسل كلاميّة وحركيّة في الوقت نفسه مُتراصة مع بعضها بفعل توظيف الأسلوب البديعي تشابه الاطراف ،الذي مثل علاقة دلالية تقوم على أساس التلازم بين لفظتين أو اكثر يكون بقرينة لفظية أو معنوية وهو يدل على قوّة المُتكلّم وإطاعة الألفاظ له ،فما أن تنتهي فقرة بكلمة حتى تبدأ الفقرة الثانية بنفس اللفظة التي ختمت بها الفقرة الأولى ، وهو ما يُسمّيه فان دايك ب"التدرج الدلالي "على اساس المناسبة والتوافق بين الالفاظ وكل معنى يأتي تأتي معه دلالة اخرى جديدة توسع مفهومه وتوضح جوانب منه .
والشاعر في ابيات الخاتمة يعلن رؤاه المستقبلية إذا بقي صراع الإخوة
_ستأكل الحرب من ابطالكم
_أكلت ،والآن تأكل من اطفالنا القطط
-قد انكمشتم بقعر الثأر
_ستنتهون إلى لا شيء
لانكم ..فككتُم الوطنَ
بهذا القتل الممنهح وسيحصدكم حصد السنابل .
منظومةٌ لغويةٌ متكاملة ٌضمّتْ أساليب تشكيلية متنوعة بلغة ما ورائية مثيرة ومعان توقظ الأذهان وليتها توقظ القلوب .ارجوا ان اكون قد كشفت بعض جوانبها للقارىء الكريم .

 

تعليق عبر الفيس بوك