الأفق المستقبلية لهؤلاء الآلاف من الشباب

 

د. عبدالله باحجاج

هناك الآلاف من شبابنا دون شهادة آمنة أو مهنة ضامنة، فمنهم حملة الدبلوم العام "الثانوية العامة" ومنهم ما دون هذا المستوى التعليمي، والكثير من حملة الثانوية العامة، هم الآن في قائمة الباحثين عن فرصتهم في التعليم دون جدوى، تعُج بهم ملفات الجامعات والكليات، كما أنَّهم يصنفون كذلك في قائمة الباحثين عن عمل، ودون جدوى، فهل هذا المشهد متصور أو يُفترض أن يكون متصورا؟ وهل الفاعلون يعملون على إيجاد حل عملي تفاديًا للمشاكل الناجمة عنه؟

 مهما يكن، تظل قضية تكوين وتأهيل وتدريب موارد بلادنا البشرية من صلاحية الحكومة مهما طرأ على دورها من تحولات اقتصادية كبرى، فهذه القضية لن تسقط عنها، لأنَّها معنية دون غيرها بصناعة قوة بلادنا الديموغرافية، وهي لن تقل شأنًا عن صناعة القوة العسكرية والأمنية، إن لم تتعاظم، وهي كذلك، على اعتبار أنها العقل الصانع للأخرى، أومحركها والمُتعاطي معها، نطرح هذه المقدمة بعد زيارتنا مؤخرًا للكلية الفنية بصلالة التابعة لوزارة القوى العاملة، حاملين معنا طموح شاب لم تسعفه نسبة أكثر من (70%) أدبي في الحصول على مقعد جامعي حتى الآن، فرأينا أنه قد يكون في هذه الكلية الطموحة الفرصة المواتية له، فكم كانت مُفاجأتنا كبيرة؟ أكثر من (300) شاب وشابة في قائمة الانتظار دون وعد بصناعة الأمل، ويدرس في هذه الكلية الآن أكثر من (800) طالب وطالبة، وهذا يعني أنَّ هناك أعدادا كبيرة غارقة في الفراغ وتداعياته وخطورته المُستقبلية ... بعد أن تغير ناموس الكون معهم، فليلهم لم يعُد يحتويهم داخل منازلهم، ونهارهم بدلاً من أن يستثمر في تعليمهم أو تأهليهم، حولوه إلى سبات عميق، وكلما يتعمق فقدان الأمل في نفسياتهم، يفقدون الإحساس بالتعاقب الزمني خلال اليوم الواحد، ولا يُدركون من الأيام سوى مُسمياتها، فتستوي عندهم الأسماء، لأنها كلها تشكل لهم إجازة إجبارية.

لا ينبغي أن ننظر لعدد (300) شاب منتظرا فرصته في التعليم بصورته المجردة والوحيدة، وإنما نقترح توسيع النظرة والتأمل للأعداد الأخرى التي لم تحصل على فرصتها في التعليم أو التدريب في بقية مؤسسات التعليم العالي الأخرى، فكم يبلغ عددهم الإجمالي قياسًا بالعدد المنتظر فرصته في الكلية المهنية بصلالة؟ وعندما نوسع البحث في الأعداد السنوية التراكمية التي تفشل في الحصول على فرصتها في التعليم ما بعد الثانوية العامة، فكم عددهم حتى تتضح لنا الصورة الإجمالية؟ من هنا ينبغي فتح ملف الأعداد التراكمية السنوية التي تتوقف مسيرتها عند الثانوية العامة حتى تكون لدينا معرفة بأعدادهم، وكم لا تزال غارقة في الفراغ دون عمل، وكم يعمل منها في وظائف غير دائمة أو غير آمنة، حتى نستشف المُستقبل وتحدياته؟ ومثل هذه القضايا يبدو لنا أنَّها غائبة عن الاهتمام الرسمي، ولا يلتفت إليها، رغم أنَّها تدخل في صلب صلاحيات الكثير من المؤسسات الحكومية، وربما لو كان لدينا مركز مُتخصص لنتائج السياسات في بلادنا، لشهدنا التغيير المُتواصل للسياسات حسبما يكشفه هذا المركز من نتائجها بعد تطبيقها، وهذا الفراغ يعمق جهلنا بالمجهول، يظهر مشهد السياسات، وكأننا نقذف بنتائجها في بحر من وزن المُحيطات، رغم أنَّ هذه المسألة يفترض القيام من قبل وزارة القوى العاملة أو المركز الوطني للإحصاء والمعلومات.

وقد فتحت زيارتنا للكلية المهنية بصلالة، وهي إحدى الكليات السبع التابعة لوزارة القوى العاملة، الآفاق والرؤى لمُعاينة هذا المشهد غير المحسوس، ومن ثم نرى أنه من المصلحة الوطنية العمل على التخفيف من حجم العدد التراكمي بعدة طرق مُختلفة، وهنا نقترح الآتي:

أولاً: زيادة الطاقة الاستيعابية للكليات الفنية التابعة لوزارة القوى العاملة، لاحتواء العدد الكبير من شبابنا في مظلتها المهنية، متزامنًا مع زيادة التخصصات المهنية في هذه الكلية والكليات الأخرى، فالكلية المهنية بصلالة، يتوفر فيها ثلاثة تخصصات فقط هي الكهرباء والإلكترونيات وبيع وتسويق، وتمنح دبلوما مهنيا متخصصا، والدراسة فيها ثلاث سنوات، كما تعقد دورات قد تصل مدة الدورة إلى تسعة أشهر .. تمنح من خلاله شهادة تخصص ماهر، ونرى أنَّ الحاجة الوطنية ببعديها الفني كحاجة السوق وبعدها الاجتماعي، تحتم إدخال تخصص إضافي جديد، وخاصة في الميكانيكا وصيانة الحاسوب، ودراسة عودة التخصصات البحرية بعد إلغائها من هذه الكلية التي أقيمت أصلاً بجوار البحر في منطقة ريسوت، ويبدو خلوها من التخصصات البحرية، وكأن موقعها يستنكر وجودها فيه.

هذه الكلية بصورة خاصة والكليات السبع بصورة عامة، الرهان عليها كبير في ضوء ما سبق، وبالتَّالي تطويرها يتناغم مع تلكم السياقات، وبإمكاننا أن نجعلها أكثر جاذبية لشبابنا، ونحول بوصلة الجذب إليها أكثر من غيرها إذا ما اقتنعنا بدور الكليات المهنية في سد احتياجات السوق من مُختلف التخصصات المهنية، وارتباط هذه الكليات بوزارة القوى العاملة، يجعلها تصنع الفارق عن بقية مؤسسات التعليم العالي، كيف؟

وذلك من خلال ضمانة العمل بعد التَّخرج في هذه الكليات، حيث يمكن لوزارة القوى العاملة حصر احتياجات السوق مسبقاً لفترة متوسطة الأجل "خمس سنوات" وتعمل بالتنسيق مع الشركات العاملة في السوق على سد احتياجاتها، وتكون هناك علاقة تواصل ومتابعة بين الشركات والطلبة أثناء الدراسة، تنظم لها زيارات "تطبيقية" لبيئات العمل المقبلة، وإذا لم يتمكن سوق العمل من استيعاب كل المخرجات، تعطى الأولوية والأفضلية للمجيدين والمتفوقين .. مما يمنح ذلك بيئة الدراسة ضمانة العمل للكل أو الأوائل منهم، ويحفزها على التنافس بعد أن يكون قد وفرنا لها عنصر الجذب للدراسة فيها، وبهذا نخرج عن النمطية والتقليدية، ونفتح نوافذ الأمل على مصارعها للشباب.

وثانيًا، ينبغي أن ننفتح على مُقترح العسكرية من منظورين، الأول، لكل شاب لم يحصل على فرصته في التعليم سنويًا، عبر مختلف الأجهزة العسكرية والأمنية، فهذه الأجهزة تتوفر لها الأموال بعد أن نجح بعضها في استثمار أصولها تجاريًا، والثاني، التجنيد بعد الشهادة الجامعية، لدواعي التربية العسكرية ودورها في صناعة عناصر الانضباطية والالتزام في شخصية الجيل الجديد، وكذلك لتخفيف الضغط على التشغيل والتوظيف كل سنة ... ودون الأخذ بمثل هذه المُقترحات، فهل الحل يكمن في ترك الآلاف من الشباب يتراكمون سنوياً دون تعليم ينتج الشغل والوظيفة الآمنة، أو دون مهنة سوقية .. وبالتالي ينبغي الحديث منذ الآن عن تداعيات هذه الأعداد التراكمية المُخيفة على الأمن والاستقرار في بلادنا في مرحلة لم تعد الحكومة هي المسيطرة على المجتمع بعد تحول دورها إلى النظام الجبائي، فهل هناك من يحمل معنا هم هذا الهاجس؟ قضية عاجلة لا تؤجل.