بين صحفي بائس وكاتب فاسد

مسعود الحمداني

في رواية "دموع صاحبة الجلالة" لمؤلفها الصحفي موسى صبري، هناك شخصية محورية، هي بطل العمل، تحمل اسم "محفوظ عجب"، وهو صحفي انتهازي، يبحث عن الشهرة والسُّلطة معا، وهو ثعلب ماكر، يبيع كل أصدقائه، وأهله، وأحبته في سبيل بلوغ غايته، ويتقمَّص أقنعة عدة للوصول إلى أصحاب القرار، لا ليكشف الحقيقة، ولكن لأنه يعتبرهم سُلّمه لبلوغ القمة.. ويلبس هذا الصحفي ألفَ قناع وقناع أمام المجتمع، ويراه بعض القرَّاء أمل الأمة ومخلّصها من الفساد في البداية حتى تنكشف شخصيته، وتظهر حقيقته.

هذه النوعية من الصَّحفيين أو الكُتَّاب أكاد أراهم موجودين في كل مكان، يعيشون بيننا، ويكتبون ما يمليه عليهم المسؤول، ويبحثون عن الشهرة والسلطة دون اكتراث لما يريقونه من ماء وجوههم، أو كرامة قلمهم، فهم يسيرون على خطوط زئبقية أحيانا، لا تكاد تراها بالعين المجردة، يحاولون أن ينتقوا من بين الأحداث ما يتناولونه، وإن لم يجدوا شيئا بحثوا عن "لا شيء" ليكتبوا حوله، صحفيون -أو كتَّاب، أو إعلاميون- انتهازيون من الدرجة الأولى، تجدهم أحيانا في المؤسسات الرسمية، وفي مكاتب السلطة يسألون عن مادة للكتابة، ويتقرَّبون للمسؤولين ليسألوهم عمَّا يُريدون أن يكتبوه لأجلهم، أو يلمِّعون به صورهم، وهم لا يدركون أن من كثُر رياؤه، قل حياؤه.

مثل هذه الشخصيات المريضة كتابيا، والمأزومة نفسيا، تميل حيث تميل الريح، وحيث تتمايل السياسة، وحيث تعشش المصلحة، ولا غرابة أن يمدحوا اليوم موقفا معينا، ثم يمدحوا نقيضه غدا، ولا عجب أن يكتبوا اليوم مؤيدين لقضية، ثم تجدهم في اليوم التالي معارضين لها؛ فالبوصلة تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان والمسؤول والمصلحة، وهم يُدركون تماما أنهم يكذبون أو يتملَّقون أو يُنافقون، ولكن ذلك ليس ذا أهمية لديهم؛ فالضمائر الميِّتة لا تصحُو مُبكرا، المهم أن يكونوا قريبين من صاحب القرار، ويتمتعُون بثقة المسؤول الذي يكتبون عنه، وله.

ولعلَّ بعض هؤلاء يتقاضون أجرَ ما يكتبون، وهو ثمنٌ مقبوض مُسبقا، أو لاحقا، فهم يكتبون أو يتناولون المواضيع حسب (الرُّزمة) أو الإغراء، ولكن مثل هؤلاء الانتهازيين لا يخفون على الناس مهما طال الزمان أو قصر، وإلى أن يتم انكشاف أمرهم فلا ضير في أن يجعلوا من الحقائق مداسا لهم، وأن ينتعلوا حذاء الزيف المطلق لتوصيل رسالتهم، والوصول إلى مبتغاهم، حيث يمكن لمثل هؤلاء أن يتلوَّنوا كالثعابين بألف لون، وألف جلد، وتراهم أمام الشاشات يدافعون عن قضية ما حتى ولو كانوا غير مقتنعين بها، ولكنها الوسيلة لهدفهم الذي يخططون لبلوغه عبر سُلَّم طويل من النفاق الصحفي والإعلامي والاجتماعي.

بيننا كثير من أمثال "محفوظ عجب" يَقْتاتون على مَوَائد الحكومات، يصنعون نجومية مزيفة وبغيضة، يلبسون أقنعة المهرجين، ويصنعون أكاذيبهم، ويجدفون عكس التيار من باب "خالف تُعرف"، لكنهم يفقدون في ظل هذا التخبّط أنفسهم واحترامهم واحترام غيرهم، وينسون أن الأقنعة لا تغطي الحقيقة، وأن حبل الكذب قصير، وأنهم يوما ما سيحطمون كل ما بنوه، ولن يجنوا سوى لعنات الآخرين، تماما كما كانت نهاية شخصية الرواية.

ورغم أن بطل "دموع صاحبة الجلالة" سقط من حسابات التاريخ، ومن أعين قرَّائه بعد أن انكشفت حقيقته، إلا أنه كشخصية صحفية وإعلامية ما زالت حيَّة لا تموت، تبحث عن المجد الزائف، وتمثل أسوأ أوجه الانتهازية و"الميكافيللية) المطلقة، ولا تزال تتنقل من مكان إلى مكان، حاملة معها قلما مغموسا بالخبث، وعقلا ملوثا بالأباطيل، ووجها يشبه الأحبة، وقلبا مليئا بالحقد والعداء.. إنه شخصية واقعية تتجسد في الصحافة والكتابة والإعلام، تضحِّي بكل القيم والمبادئ والأخلاق لبلوغ الغاية الكبرى: السلطة والنفوذ؛ فكم من "محفوظ عجب" تقرأون له، أو تشاهدونه، أو تستمعون إليه يوميا؟!! وهل تتخيلون أحدهم وأنتم تقرأن هذه السطور؟!!!

Samawat2004@live.com