عبيدلي العبيدلي
مُنذ انطلاقة الحياة البرلمانية في البحرين في السبعينيات من القرن الماضي، وحتى يومنا هذا، لم تخلُ ردة فعل القوى السياسية البحرينية من فريقين؛ الأول: يحث على المشاركة فيها، في حين يدعو الآخر إلى مقاطعتها. وقبل الخوض في جدوى دعوات المقاطعة، لا بد من التأكيد على حقيقة واحدة، وهي أن دستور البحرين سواء الحالي، أو ذاك الذي عمل به في السبعينيات من القرن الماضي قبل أن يغلق "المجلس الوطني" ويعلَّق العمل بالدستور، لم يحظرا حق المواطن في الدعوة للمقاطعة، أو ممارستها كممارسة يصونها الدستور.
والمقاطعة كسلوك، أو بالأحرى كموقف سياسي، تعتبر "إحدى الوسائل المستخدمة من قبل مجموعة من الناخبين كتعبير سياسي عن موقفهم الذي يؤمنون به، يمارسه الناخب عندما يرى أن احتمالات تزوير الانتخابات قوية، أو أن النظام المشرف على العملية الانتخابية متحيز لمرشح بعينه، أو أن النظام السياسي المنظم للانتخابات يفتقد إلى الشرعية". لكن ينبغي عدم إغفال حقيقة في غاية الأهمية وهي أنه "في بعض الدول حيث التصويت إجباري، قد تعتبر المقاطعة نوعا من أنواع العصيان المدني، ويكون الحل البديل لمؤيدي المقاطعة هو إبطال الأصوات عن طريق (الأصوات البيضاء. أي ترك ورقة التصويت فارغة) أو اختيار خانة (أرفض كل الاختيارات) في حال وجودها".
لكن ما هو أهم من كَوْنها حقًّا يكفله الدستور هو جدواها في تحقيق الهدف السياسي الذي يقف وراءه من يدعون لها. أخطر ما يمكن أن يكون مبررا لتنامي دعوات المقاطعة كونها تنطلق من أجل تحقيق هدفين: الأول منهما هو أن تصبح المقاطعة هدفا في حد ذاته القصد من ورائها تسجيل موقف يقترب من الطوباوية أو الطهرانية، كي "تقنع" القوى السياسية التي تقف وراء دعوة المقاطعة أنها لا تشارك في عملية سياسية لا يرقى نقاؤها -تلك العملية- إلى المستوى "الطهراني" الذي تحدده هي وفقا لمقاييس ذاتية، تكون في أحيان كثيرة بعيدة عن حقائق الواقع المعاش. أما الهدف الثاني، فهو ثقة هذه الفئة الداعية للمقاطعة من فشلها في نيل الحد الأدنى من الإصوات التي يحتاجها أي من المترشحين الذي ينتمون إلى صفوفها، الذي يؤمن الفوز في حالة المشاركة.
ودُون الحاجة لتقويم المنطقين، فنسبة عالية، إن لم نقل كل تجارب العالم الذي تمارس فيه الانتخابات النيابية، أثبتت المقاطعة عدم جدواها، وأن الخاسر الأكبر فيها، قبل القوى التي تقف وراء تلك الدعوات، هو المواطن نفسه؛ حيث سيجد نفسه مُطَالبًا باختيار من لا يرى فيهم الكفاءة النيابية التي يبحث عنها. ولذلك فربما الخيار الأفضل لمن يريد أن يعبر عن احتجاجه على العملية برمتها، هو اللجوء إلى ما يطلق عليه "التصويت الاحتجاجي"، وهو يختلف جوهرا عن الدعوة إلى المقاطعة، حيث يتعمد من يذهب للاقتراع بوضع ورقة بيضاء يحتسب صوت من يدلي بها، لكنه لا يضاف إلى أي من المترشحين. ومن هنا لا يصبح الامتناع عن التصويت موقفا مقاطعا او حتى حياديا، بل هو -كما يقول البعض- "مشاركة إيجابية عن طريق السلب". وهذا الموقف كما يقول الفلاسفة "السلب أقوى من الإيجاب". ويعد هذا المنحى تعبيرا مباشرا وملموسا عن "عدم رضا الناخب عن كل الخيارات المطروحة وسلوك النظام السياسي ذاته"، دون أن يعني ذلك جدوى الحث على اللجوء إلى مثل هذا الخيار، إلا في حالات نادرة، لها ظروفها الخاصة بها.
وأخيرا.. وفي سياق الحديث عن حق المقاطعة، وعدم جدواها، لا بد من الإشارة هنا إلى أنه عندما تكون المشاركة في الانتخابات مسؤولية وطنية ينص عليها الدستور المعمول به، تتيح المقاطعة أمام الدوائر الرسمية توجيه التهم لمن يدعون لها، حينها قد تصل إلى تهمة تصل إلى مستوى نية القيام بعصيان مدني.
وفي المقابل، تتيح المشاركة الكاملة مساحة شاسعة للتعبير عن الرأي، وإيصال الصوت عاليا لمن يُراد منه أن يسمعه؛ ففي المشاركة جدوى ملموسة تؤكدها الحقائق التالية:
- تقليص، إن لم نقل وضع حد، لأي شكل من أشكال التزوير: إذ تمنح المشاركة الحق لمن يمارسها أن يشارك في عملية الانتخابات برمتها، بما فيها إجراءات التصويت، وعمليات فرز الأصوات.
- كسر حاجز الخوف أو التهيب من ممارسة الحق الديمقراطي. ومع تجذر العملية الانتخابية، تتحول تدريجيا إلى حق مكتسب، وممارسة اعتيادية، تصعب الطريق أمام من تتضارب مصالحه واستمرارها، وتدفع من مارسها إلى التمسك بها وعدم التفريط في حقه المكتسب.
- تعزيز مسيرة العملية الديمقراطية في البحرين، فمن الخطأ القاتل اعتبار المواطن صوته تعبيرا فرديا مفصولا عن أصوات الآخرين، فكلما كانت نسبة المشاركة أعلى، تنامى غنى الخبرة الديمقراطية عند المواطن، مهما كان ضِيْق حيز الهامش المتاح أمامه.
- الترويج لمفهوم المسؤولية الجماعية؛ فبشكل موضوعي تتخطى المشاركة مفهوم فردية الصوت الضيقة كي تصل، ومن ثم تؤسس، لفكرة المسرولية المجتمعية أو بالأحرى الجماعية.
هذا يجعل من يدعو للمقاطعة أمام مجموعة من الأسئلة التي لا يستطيع تحاشي الإجابة عنها:
1- ما هي الأهداف الملموسة والمجدية، عند مقارنة الفوائد المرجوة، بالخسائر المتوقعة التي تبرر المقاطعة وتفسر جدواها؟
2- ما هي بدائل وقنوات العمل السياسي القادرة على تعويض القوى السياسية الداعية لها، مقارنة بتلك التي تؤمن بها المشاركة؟
3- ما مستوى الحماية السياسية، ومن ثمَّ مساحة هامش الحركة السياسية، التي تضعها المقاطعة بين يدي من يدعون لها، مقابل تلك التي تزوده بها العضوية النيابية في حال النجاح الفردي، أو نجاح المترشحين الذين وهبهم صوته، وصوت القوى التي تحالف معها؟
كلُّ هذا يضع القوى السياسية البحرينية مِمَّن يحق لها المشاركة في الانتخابات أمام مسؤولية تاريخية، عليها أن تعالجها بشيء من الحكمة البعيدة عن أي انفعال آني، تكون هي الخاسر الأكبر بسببه.