تحولات النسق الشعري المرئي:

قراءة في قصيدة (قدس حمارك) للشاعر عمر هزاع

...
...
...
...

د. ابتهال الغزي الفضلي - العراق‏


أولا - نص: قَدِّسْ حِمارَكَ!
قَدِّسْ حِمارَكَ!
وَقتُ الخَيلِ قَد وَقَفا..
وَكَدِّسِ الشِّعرَ..
- فِي إِسطَبلِهِ -
عَلَفا!
*
وَارقُصْ بِسَيفِكَ
دامَ السَّيفُ مَنظَرَةً
تُضفي؛ عَلى بِزَّةِ برِستِيجِكَ؛ التَّرَفا
*
وَاركَعْ
لِكُلِّ زَ(عِــ نِــ) ــيمٍ
كُنتَ تَشتِمُهُ
وَاخضَعْ
لِتُرفَعَ
مَحسُوبًا عَلى الشُّرَفا
*
وَامدَحْ
فَما المُتَنَبِّي بِالذي فَرَقَتْ حُرُوفُه ُالدَّهرَ
إِلَّا بَعدَ ما اقتَرَفا
*
فَلَستَ أَوَّلَ مَن ضَحَّى بِعِزَّتِهِ
وَلَستَ آخِرَ مَن يَستَظرِفُ السُّخَفا
*
وَلتَعتَرِفْ..
أَنَّ لِلخِصيانِ دَولَتَهُم
لِأَنَّ أَطوَعَ مَن يُخصى الذي اعتَرَفا
*
وَازعُمْ..
بِأَنَّكَ لَم تَنكِحْ مُجاهِدَةً..
يَنتااابُها الحَرَسُ الثَّورِيُّ..
وَالخُلَفا..
*
وَاحلِفْ..
بِأَنَّ صِراعًا مااا..
مُعارَضَةٌ تَقُودُهُ..
دُونَما دَعمٍ..
مِنَ الحُلَفا..
*
وَقُلْ لِداعِشَ:
(بِئرُ النِّفطِ قَد حُلِبَتْ
فَلتَستَفِيقِي
لِكَي تَستَحلِبي النُّطَفا)
*
وَبَلِّغِ الشَّامَ:
(أَنَّ الأَرضَ واسِعَةٌ)..
لِذاااكَ..
فَضَّلتَ أَلَّا تُصبِحَ الهَدَفا..
*
لِذاااكَ..
خَلَّفتَ عِرقَ الياسَمِينِ..
دَمًا يُسقى..
وَنَخلَكَ..
لا تَمرًا!
وَلا حَشَفا!
*
وَطُفتَ..
تَطرُقُ..
مِن شَرقِ الخَلِيجِ..
إِلى غَربِ المُحِيطِ..
وَلا بَوَّابَةٌ..
فَكَفى..
*
يا آسِفَ الدَّمعِ..
هَل لِلدَّمعِ عُملَتُهُ؟!
وَأَينَ تَصرِفُ دارُ الحِسبَةِ الأَسَفا؟!
*
وَكَيفَ تُقنِعُ جَلَّادِي إِمارَتِها؟
أَنَّ ابتِزازَكَ؛ حَيًّا؛ مَيِّتٌ!
سَلَفا!
*
وَأَنَّكَ؛ الآنَ؛ مَنبُوذٌ..
وَمَحضَ سُدًى..
تَسعى..
لِتَرجِعَ؛ فِي إِرهابِها؛ طَرَفا!
*
وَأَنَّ؛ بَعدَ سِنِيِّ الضَّوءِ؛ قَد عَرَفَتْ أَسنانُ لَيلِكَ..
أَنَّى تَأكُلُ الكَتِفا..
*
فَلتَرفَعِ الرَّايَةَ السَّوداءَ..
وَاطوِ..
- إِذا ما ابيَضَّتِ المُقلَةُ -
الأَقلامَ..
وَالصُّحُفا..
*
فَلتَمنَحِ الدَّولَةَ الحَمقاءَ..
رَأسَكَ..
إِذ..
لَبِستَ عَقلَكَ بِالرِّجلَينِ..
فَانخَصَفا!
*
وَمِن بَنِيكَ..
انغِماسِيِّينَ..
وَقتَئِذٍ..
سَيَنسِفُونَ - لِتَبقى الدَّولَةُ - الضُّعَفا..
*
لِيَملَؤُوا الأَرضَ؛ مِن إِخوانِهِم؛ جُثَثًا..
وَيَستَقِرُّوا..
عَلى الجُودِيِّ..
حَيثُ طَفا..
*
(لا تَشتَرِ العَبدَ)..
قُلْها..
كَي يُظَنَّ:
- إِذا ما يَسمَعُونَكَ -
(أَنَّ القائِلَ انعَرَفا)..
*
(لا تَشتَرِ العَبدَ)..
- وَالنَّاجُونَ أَكثَرُهُم مِنَ العَبِيدِ -
(إِذا لَم تَجلِدِ السَّلَفا)..
*
وَدَعْ قَصِيدَتَكَ الخَرساءَ؛ تُخبِرُهُم:
(أَنَّ الذي قَوَّمَ الشِّعرى قَدِ انحَرَفا)!

ثانيا – القراءة النقدية
معلوم أن للنص الأدبي أبعاد متنوعة ومختلفة تخضع للقراءات الفنية والفلسفية بغية فصل المثيرات الجمالية وتحديد مكامنها وآفاق تأويلها نقديا، إذ تعد تلك المثيرات من كبرى مقومات نجاح العمل الأدبي فالوصول إلى أداء جمالي عال بتوازٍ مع إيصال الرسالة الفلسفية للنص يخرجنا من جدلية كينونة النص الفنية المطلقة أو الاجتماعية المطلقة ليقدم لنا منظومة أدائية لسانية بهجين إبداعي يكون الفن والمجتمع أبرز أسسه الثيماتية؛ لذلك يقال إن الشعر الذي يستحق إن يقال عنه شعرا هو مادخل اللسان والقلب والذهن في زمن متواز تماما مع زمن القراءة ولا يتحقق ذلك إلا عند عتبات النصوص الأدبية التي تنماز بأداء لساني تتحرك شعريته في اللسان والذهن والقلب من غير حاجة إلى استبصار كبير أو سلسلة تأملية يطول أمدها وعند هذه المنطقة اللسانية الشعرية تحديدا يحصل التداخل الفني بين المرئي والمسموع ؛ لأن منتجة الحركة اللسانية الشعرية تعني تحقيق استجابة مرئية مباشرة للأداء اللساني في ذهن المتلقي عبر سيناريو معد من أكثر التقانات البلاغية والأسلوبية الفنية تأثيرا وتحقيقا للأبعاد الزمكانية للنص وهذه القراءة تقف عند الأنساق المرئية في القصيدة وتقرأ تحولاتها أيديولوجياً وتكشف عن موضع هجنة الأسلوب فيها :
قدس حمارك /اللقطة الأولى
وقت الخيل قد وقفا /اللقطة الثانية
تتجلى في مطلع القصيدة قصدية دلالية واضحة بالجمع بين فعل لطالما كان سببا من أسباب الصراعات العربية العربية بل الإسلامية الإسلامية ويعطيه لمخلوق نظرت له العرب نظرة دونية فطالما التصقت به صفات الهوان والضعف وانعدام الكرامة وفي ذلك دلالة واضحة على ضرب المقدس المعاصر وعدم جدواه بعد الذي جرى من تشويه للعقائد وشيوع للفتن
فالصاق صفة القداسة للحمار لأنه مخلوق منتج في وقت اللا إنتاج أما اللقطة الثانية فبها اكتملت مقابلة صورية للمشهد التي أفصحت عن هجين فني بمفارقات لسانية جسدتها المقابلة بين (الخيل والحمار) ومعلوم أن للخيل قيمة عليا في معجم العرب الميثولوجي بل حتى العقائدي مقابل الحمار الذي تلازمه صفة الدونية أبدا وهنا يكمن التحول الآيديولوجي من الشجاعة والقوة إلى الصمت والقبول بكل مايملى على المرء
أما البعد الدلالي للمشهد فيمكن أن نفكك صورته عبر أسلوبين مرئيين :
-    الأسلوب الفني المقامي:
إذ يتميز بطاقة أدائية تمثيلية كبيرة جدا كون محكياته الفعلية كثيرة ومتكررة ومما أكد وجود هذا الأسلوب هو تضمين دور الحمار كممثل أول في المشهد وهذا ينتج دلالة هزلية في النص وهي صفة ملازمة للأسلوب المقامي
- الأسلوب الجاد:
اختزل ذلك في اللقطة الثانية وايحاءات الدلالية المباشرة وكان الفاعل التمثيلي فيها الخيل وهي ثيمة تكررت كثيرا في مدائح كبار الشعراء العرب ونصوص فخرهم بشجاعتهم ولست أوضح من ذلك ماجاء في شعر المتنبي وأبي فراس الحمداني وغيرهم.
إن هذا الهجين بين مشهد لساني بفلسفة النقد الواقعي وبين نفي المشاهد الثورية التي حفل بها الشعر العربي مع حفظ محددات المونتاج الزمكاني لكل نص اختزلت الصراع القائم بين الماضي والحاضر وبثت رسائل سياسية كبيرة أخرجها مخرج النص عبر منتجة المتواليات الشعرية بجمالية دلالية كبير تمثل ذلك بتكرار التناوب بين الأنساق المرئية الجادة وغيرها النقدية الهزلية ويستوضح ذلك مشهد من مشاهد سيناريو النص(وكدس الشعر في اسطبله علفا) فمعلوم أن الشعر مثل مادة إحيائية لعزيمة القادة وصقل تجاربهم وعامل شحذ همم الفوارس والأكثر من ذلك أن كبرى أراجيز العرب مدحا وفخرا تلك التي قيلت حيث الحرب وعند القتال أما اليوم فتحول علفا للحيوانات وفي ذلك دلالة على ذهاب زمن فائدته وهنا تحول آيديولوجي آخر في مرئيات النص أما التحول الآخر في أنساق النص المرئية فينهض به المفعول به التمثيلي (السيف).
وَارقُصْ بِسَيفِكَ
دامَ السَّيفُ مَنظَرَةً
تُضفي؛ عَلى بِزَّةِ برِستِيجِكَ؛ التَّرَفا
فمخاطبة المأمور بالرقص بالسيف يمثل استهانة واضحة بمرجعيات قيمة السيف في القاموس العربي وبمحايثة صورية للسيف الراقص والسيف اللامع يستحضرنا قول عنترة
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم
فالبيتان يحملان مرئيات شعرية كبيرة، بعدها الزمكاني معروف وواضح فهما سيناريو لمرئيات في مكان الحرب من الزمن الماضي
وبعيدا عن دلالة التشبيه لنا أن تخيل قيمة الفاعل التمثيلي اللامع من شدة الصليل في الحرب والراقص ترفا وهذا تحول آخر لثيمة من ثيمات الأداء الشعري المرئي من قيمة القوة والنصر إلى قيمة شكلية بوصفها مكملا خارجيا لانفع فيه ولافائدة منه
أما المتواليات المرئية الأخرى فجاءت كمكملات للطاقة الأدائية الكبرى في الأبيات الثلاثة الأولى ولم تكن بمستواها صوريا لكن تكرار فعل الأمر بقيمته الأدائية بوصفه مفردة لسانية تستوجب أداءً مشهديا متتاليا عزز السيناريو الآيديولوجي المرئي للنص وهنا تحققت أيديولوجيا النقد السياسي الواقعي في قصيدة قدس حمارك إلى أن يصل النص لمشهد فيه مباغتة مرئية كبيرة أعلن فيها نقده المباشر لايديولوجية الفكر الداعشي وحقق أداءً مرئياً مطابقاً لسلوكيات الفكر المنحرف
وَقُلْ لِداعِشَ:
بِئرُ النِّفطِ قَد حُلِبَتْ
فَلتَستَفِيقِي
لِكَي تَستَحلِبي النُّطَفا
وفي هذا النسق المرئيمقابلة جديدة بين مادي لا تأبه له العرب لشدة كرمها ومقدس هُتك من مقدساتها
إن النص أعلاه سلك استراتيجيات مرئية أيديولوجية تمنتجت بأسلوب الوعظ للمنتمي المنحرف والذم المبطن بآيحاءات هزلية ثم النقد الآيديولوجي المباشر وكل متواليات النص تعزز ذلك، إلا أن الشاعر أراد لقصيدته أن تختم بمشهد مرئي بطاقة سماعية كبيرة تحققت عبر مقابلة دلالية بين فعل الأمر الدال على التنفيذ والآخر الدال على الترك(قَدِّس، دَعْ) مع صقل المشهد بما يؤكد الطاقة المرئية للنص :
وَدَعْ قَصِيدَتَكَ الخَرساءَ؛ تُخبِرُهُم:
(أَنَّ الذي قَوَّمَ الشِّعرى قَدِ انحَرَفا)!
وكأن القصيدة الخرساء هي سيناريو واقعي مرئي لآيديولوجيات منحرفة وثوابت انتهكت.

تعليق عبر الفيس بوك