الآثار النفسية والاجتماعية للحوادث المرورية

سعيد بن محمد الحسني

الحمد لله الذي يسيرنا في البر والبحر، سبحانه يسهل الصعب وييسر العسر، ومنّ على بني الإنسان أن يسر لهم التنقل من مكان إلى مكان بوسائل تختلف باختلاف الأحوال والأزمان، فقال عزّ من قائل: "والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون" فقد كان الأوائل بالدواب يتنقلون وعبر البغال والحمير يرتحلون، فرزقنا الله من الوسائل ما لم يره الأولون ولم يكن يتصوره الغابرون، تأتي في مقدمتها المركبات (السيّارات)، تلك الوسيلة التي تختصر لنا المسافات وتوفر لنا كثيرا من الجهد والأوقات، إنها نعمة عظيمة تحتاج إلى شكر، ولا يكون شكرها إلا بالوعي الحقيقي لجوانب استعمالها وفن قيادتها، والقائد الواعي هو من يراعي النعمة ويحرص على شكرها من جميع الجوانب.

إن المركبة نعمة من نعم العصر على الإنسان فيسرت له أمره في التنقل حتى صار السفر متعة، كما أن وسائل النقل أضحت وسيلة لقضاء الحوائج وربط الاتصال بالأغيار ناهيك عن كونها أصبحت ضرورة من الضروريات الأساسية التي لا تقوم الحياة الحديثة بدونه، إلا أنها في ذات الوقت، تعتبر أداة لإلحاق الضرر بالذات البشرية ماديا واجتماعيا ونفسيا، تلك ضريبة الاستخدام السيئ للأداة، وبالرغم من النجاحات المتواصلة التي حققتها المواصلات في ربط العالم بعضه ببعض، وجعله يبدو كقرية صغيرة متداخلة، إلا أنه لم تسلم المجتمعات من كثرة الحوادث المرورية التي تحصد ملايين الأرواح سنويا، فهناك من الأبحاث من يقول إن ضحايا حوادث السير يفوق نتائج الحربين العالميتين الأولى والثانية، بل ذهبت إلى أكثر من ذلك؛ إذ تؤكد أن السبب الأول في موت الإنسان هي حوادث المرور.

وتعد دول الخليج من بين الدول الأكثر تضررا من حوادث السير المميتة، لذلك كان من اللازم على هذه الدول إعادة النظر في مسألة السلامة المرورية والوقاية من حوادث المرور وتبني استراتيجية فعالة وقائية استباقية قبل أن تكون علاجية لاحقة.

ومن أبرز هذه الدول الخليجية التي تعاني من آثار الحوادث سلطنة عمان، حيث جاء في تقرير المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية لإقليم شرق المتوسط (إمرو-Emro) أن عمان واحدة من أكبر الدول التي يرتفع فيها عدد وفيات حوادث المرور مقارنة مع دول الشرق الأوسط قاطبة.

وهكذا يتبين أن ازدياد الحوادث أصبح الهاجس الذي يعاني منه العالم المتحضر وقد اختلفت الإجراءات والقوانين المتخذة من بلد لآخر في معالجة هذه الآفة، وسوف تظل نسبة الحوادث عالية وضحاياها في ازدياد وآثارها كبيرة ما لم يكن هنالك وعي وإدراك جماعي واستجابة ذاتية من مستخدمي الطريق وإحساس مشترك ومتكامل وشعور بالواجب اتجاه هذا الخطر، وإذ كانت مواجهة الحوادث ترتبط في بعض جوانبها بتخطيط الطرق ونظام المرور فإن الجانب الأكبر من المسؤولية يقع على عاتق مستخدمي الطريق ويعتمد على ما يتوفر لهم من وعي وإدراك للمسؤولية، فلن يتوقف وقوع الحوادث مهما كان اتساع الطريق وكفاءة نظام المرور ما لم يكن مستخدمو الطريق حريصين على سلامتهم وملتزمين بواجباتهم نحو الآخرين.

أما عن أهم العوامل والأسباب في الحوادث بسلطنة عمان فيأتي العامل البشري المسبب الرئيسي للحوادث المرورية إذ تشكل أخطاء السائقين حوالي (87 بالمائة ) من الحوادث المرورية، وذلك من أخطاء القيادة، بالإضافة إلى عدم التقيد بآداب القيادة السليمة. وتعد المخالفات المرورية أخطر أخطاء القيادة التي يرتكبها السائق غير مبال بأنظمة وتعليمات المرور وكذلك الخصائص النفسية والصحية والاجتماعية لقائد المركبة أثناء القيادة.

ومن أكثر السلوكيات الخطأ المسببة في حوادث المرور حسب استطلاع للرأي حول السلامة المرورية التي قام بها المركز الوطني للإحصاء والمعلومات سنة 2016 هي بالترتيب: استخدام الهاتف النقال  أثناء القيادة، تجاوز السرعة القانونية أثناء القيادة، عدم ترك مسافة الأمان، التجاوز الخطأ، سباقات المركبات غير القانونية في الطرق العامة، السير عكس الاتجاه، تجاوز الإشارة الحمراء أو إشارة الوقوف، القيادة تحت تأثير الكحول والمخدرات، وبعدها العامل الطبيعي كحالة الطقس والحيوانات السائبة وهي من أبرز المفاجآت التي يصعب التعامل معها في الطريق وخاصة أن أغلب نوعية هذه الحوادث تقع في الليل وفي الأماكن المظلمة والمفتوحة، وتعتبر الجمال أخطر الحيوانات السائبة نظرا لكبر حجمها وقوة جسدها وتختلف صور وقوع حوادث دهس الحيوانات فمنهم من يحاول تفادي الاصطدام بالحيوان إلا أن المركبة تتدهور بسبب السرعة ومنهم من يضغط على الفرامل بشدة ويؤدي به ذلك إلى تدهور مركبته أو الاصطدام بالحواجز الجانبية وأكثر هذه الحوادث تأتي على شكل اصطدام بالحيوان مباشرة ويؤدي ذلك إلى وقوع أضرار تصل إلى إصابات بالغة بالركاب وفي أحيان تؤدي لوفيات إلى جانب موت الحيوان أو إصابته، ثم يأتي العامل الفني كمشكلات الطريق التي تلعب دورا مهما في الحوادث المرورية، ورغم أنه من الصعب الجزم بنسبة الحوادث المرورية التي يسببها الطريق، إلا أنه يعتبر عاملا مساعدا في وقوع أو تجنب الحوادث المرورية، ذلك أن دور الطريق في مساعدة السائق على تجنب حادث معين ربما كان أكبر بكثير من دوره في تسبب الحوادث، وهذا بالتأكيد هو ما ينبغي أن ينشده مصممو الطرق، ولقد أظهرت مجموعة كبيرة من الأبحاث أن التصميم الدقيق للطريق وللتقاطعات، ووضوح أجهزة ولوائح المرور، وعمليات الصيانة الدورية للطريق يمكن أن تؤدي إلى تراجع كبير في معدلات الحوادث، ثم المركبات فإن عدم الاهتمام بالمواصفات الخاصة بالسلامة في المركبة يعد من المسببات للحوادث المرورية والتي لا يمكن تجاهلها.

أما عن آثار هذه الحوادث فإنها مدمرة سواء كانت جسدية أو مادية أو نفسية أو اجتماعية ونكتفي بذكر بعض الجوانب للآثار النفسية والاجتماعية، فالآثار النفسية لحوادث المرور في السلطنة تمثل معضلة عصرية حيث تقضي على أرواح الكثيرين وينتج عنها الكثير من العاهات والمعوقات وتسبب تلف هائل للممتلكات العامة والخاصة ولا يخفى على أحد أن ضحايا المرور باتت تفوق ضحايا الحروب والعمليات الإرهابية بشكل كبير مما تسبب وتخلف تأثيرًا نفسيًا كبيرًا.

ومن الأخطاء الشائعة أن الآثار السلبية لحوادث السيارات ترتبط في أذهان الكثيرين بالخسائر المادية والآلام والمعوقات الجسدية فقط أما الآثار النفسية ربما بسبب خفائها عن الملاحظة المباشرة فلا يلتفت إليها ويتجاهلها الكثير حتى ممن لهم صلة من الباحثين والمختصين.

إن من المنطقي أن تلقى الاصابات الجسدية وبعض الأعراض النفسية المباشرة الناجمة عن حوادث الطرقات أولوية في الرعاية ولكن البحوث العلمية والمشاهد تؤكد أن بعض من يتعرضون لحوادث الطرق أو يشهدون مثل هذه الوقائع يمكن أن تظهر لديهم لاحقًا اضطرابات نفسية قد تتطور لتصبح أعراضًا حادة ولا عزاء للمصابين في الحوادث المرورية في كثير من الحالات سوى من الجهات القريبة منهم إذ يتلقون نوعًا من المساندة الاجتماعية من الأقرباء والأصدقاء في غياب العلاج النفسي ولذلك تبقى المؤازرة النفسية من الأهل والأقرباء هي من يسهم في تخفيف الآثار السلبية للحوادث ولكن يحسن بنا أن نذكر عدة أمور أولها: أنه ليس كل من يتعرض لتلك الحوادث يتلقى الدرجة المناسبة من المساندة.

وثانيها: أن الأشخاص العاديين قد يجهلون نوع المساعدة الاجتماعية المناسبة أو المرغوبة من قبل المصاب و الأمر الثالث أن الكثير من الأعراض الناتجة عن الحوادث لا تظهر بعد الحادث مباشرة، وغني عن البيان أن الصدمات النفسية التي تصيب الذين يتعرضون للحوادث المرورية قد تلازمهم زمنًا طويلًا حتى بعد أن تشفى الجروح الجسدية وتتناسى آلام الخسائر المادية ولعل ذلك هو السبب في عدم استعادة بعض الرياضيين لمستويات الأداء التي كانوا عليها من قبل تعرضهم لإصابة ما إن لم تكن آثارها أكثر فداحة، والحوادث المرورية تنتج جزئيًا من مخالفات يرتكبها فرد ويتأذى منها فرد آخر أو مجموعة من الأفراد خصوصًا الأهل والأسر الصغيرة ولا يقتصر تأثير الحوادث على زيادة التوترات التي يشعر بها الفرد بل يتعداه إلى الأسر والأقارب الذي يؤدي الى تشتيت الانتباه وهذا بدوره يؤدي الى زيادة الحوادث وهكذا يستمر تأثير هذه الدائرة من الأحداث المتبادلة التأثير مما يؤدي الى تناقض شعور الفرد بالأمن النفسي مع الزيادة في عدد المخالفات والحوادث المرورية.

تتمثل أهم أعراض الضغوط النفسية (الصدمية) في استعادة الذكريات الأليمة أثناء الأحلام والكوابيس ذات العلاقة بموضوع  الحادث، أو عند مشاهدة الحركة المرورية أو سياقة المركبة أو المرور على موقع الحادث وقد يرافقه ذلك انفعالات واضطرابات حادة تشتمل على القلق والتوتر المستمر والوسواس القهري بدون مبرر والشعور بعقدة الذنب وقد تؤدي كل هذه الاضرابات إلى ضعف القدرة على إقامة علاقات اجتماعية مع الغير والمحافظة عليها، ومن المنطقي أن يتباين تأثير الحوادث المرورية في درجة الضرر الناجمة عن تلك الحوادث ولكن مهما كان الأثر محدودًا يبقى له آثارًا على الصحة النفسية والعقلية والعضوية للفرد.

إن تعاملنا مع الآثار النفسية يبقى تعاملًا دون المستوى المطلوب تدخل فيه عدة عوامل أهمها العامل الاجتماعي المرتبط بالتقاليد المحافظة التي ترى في المرض النفسي بشكل عام مرضا لا يجب البوح به وينبغي دائمًا التستر عليه واسباله بهالة من الخرافة كمس من الجن ونوع من الشعوذة وهو الأمر الذي يزيد صعوبة التعامل مع النفسيين وفي حالة حوادث المرور تزداد معاناة المصابين جراءها فمن جهة غياب المتابعة النفسية للمريض خوفًا من تهكم الأقارب والأصدقاء ورميه بالجنون وما إلى ذلك من الأوصاف الجاهزة ومن جهة أخرى غياب توعية الدولة والمجتمع.

أما الأثار الاجتماعية لحوادث المرور في السلطنة فلا يوجد حادث  في العالم اليوم لم يترك أثرًا على مرتكبه إذ يسبب لمرتكبه عاهة دائمة قد تجعله عالة على المجتمع بعدما كان سيد نفسه يعول أسرته ويحفظ كرامته ولكن بتهوره وعدم إدراكه للعواقب يصبح في متاهات اجتماعية لا حد لها يشتت أسرًا بعد أن تفقد معيلها ويصبح هو نفسه عرضة للتشرد أو التسكع في الشوارع وتنتقل تلك المعاناة  للضحية الذي كان يسير في أمان الله حتى يجد نفسه مقتولَا أو أشل جراء تهور أحد السائقين فيدخله في متاهات لا أول لها ولا آخر بدءًا بفقد وظيفته ومرورًا بتشريد أسرته وانتهاءً بتشريده وجعله حملًا ثقيلًا على مجتمعه.

وإذا كان الواقع يقول إن وسائل النقل أضحت ضرورة ملحة لا غنى للإنسان عنها، لأنها في أي دولة من الدول تسهم في حل المشكلات والأزمات بما فيها الجانب الاقتصادي والاجتماعي فإن البشرية تدفع ضريبة هذه الضرورة من أرواحها ممثلة في حالات الوفاة بالملايين ومن أجسادها ممثلة في المعوقات الجسدية بالآلاف وهو ما ينعكس اجتماعيًا من خلال انتشار البطالة ومنها انتشار الفقر الذي يتسبب هو الآخر في انتشار الجريمة وعموم الفوضى وضرب السلم الاجتماعي.

وهكذا تصبح الآثار الاجتماعية التي تسببها الحوادث المرورية في تزايد مستمر بل تصبح شبحًا يهدد المجتمع ويعكر صفو سلامته وتقف في مقدمة هذه الآثار الاجتماعية الخسائر في الأرواح البشرية والتي تعد الثروة الوطنية لكل دولة، وأيًا كان المستوى الدراسي أو المهني لضحايا الحوادث فإنه يعد أن المجتمع تنازل عن جزء من موارده وخسر موردًا من موارده البشرية التي كلفت الدول الشيء الكثير في التدريس والتأهيل.

وتبقى الوسائل التي تتخذها الدولة في مجال حوادث المرور غير كافية بالنظر لكثرة الأرواح التي تحصدها الحوادث يوميا، ولا ننكر المجهود الذي تبدله الحكومة في هذا المجال الحساس والخطير، لذلك، فإن الدولة تقوم بمجهودات جبارة تقتضي من كافة المواطنين وسكان البلد الإسهام والتعاون بما يعمل على تخطي البلد هذه الظاهرة والحد من أثارها المدمرة على الفرد والمجتمع.

بذلت السلطنة جهودا يحتذى بها لأجل الحد من حوادث المرور، وقد برزت نجاعة هذا المشروع على مستوى القانون المروري، وما صاحبه من اهتمام وما تبعه من تعديلات في السنوات الأخيرة استجابة للتغييرات التي ينادي بها المجتمع العماني.

تعليق عبر الفيس بوك