السَّبْك الصوتي في قصيدة (اليوم أعتزلُ الكتابَة) لـ"عمر هزاع" (2)


د. أمل سلمان| العراق
القصيدة أولا, ثم الدراسة:
(اليوم أعتزل الكتابة)
يا أَيُّها المُتَقَلِّبُونَ عَلَى الكآبةْ
وَ العاكِفُونَ عَلَى مُمارَسَةِ الرَّتابَةْ
يا أُمَّةٌ سَلَّتْ سُيُوفَ الحَربِ مِنْ وَجعِ الرَّبابَةْ
لَقَدِ انسَلَختُ اليَومَ مِنْ زَمِنِي
وَ مِنْ وَطَنِي وَ مِنْ قَدَرِ انتِمائِي
وَ اكتَفَيتُ اليَومَ مِنْ نَفسِي
وَ مِنْ يَأسِي
وَ مِنْ طَرحِ السُّؤالِ وَ لا إِجابَةْ
**
أَنا مُنذُ عامِ النَّكبَةِ الأُولَى
وَ مُنذُ النَّكسَةِ الأُولَى
أَلُوكُ الشِّعرَ
مِنْ تِسعِينَ جُرحًا
مُنذُ عَهدِ الثَّورَةِ الكُبرَى
مُرُورًا بِاتِّفاقِيَّاتِ
" كَلِمَنصُو " وَ " كامَبْ - دِيفِيدْ " و " شَرمِ الشَّيخِ " - " خارِطَةِ الطَّرِيقِ "
وَ مُنذُ مُصطَلَحِ التَّوَحُّدِ وَ التَّحَرُّرِ وَ الشِّعاراتِ التِي صارَتْ دُعابَةْ
أَنا مُنذُ ذاكَ الوَقتِ مَسكُونٌ بِأَوجاعِ الكِتابَةْ
وَ اليَومَ أَعتَزِلُ الكِتابَةْ
**
تِسعُونَ مَرَّتْ
وَ العُرُوبَةُ فِي قَمِيصِ النَّومِ تَحتَرِفُ الجَنابَةْ
وَ تُمارِسُ الأَوهامَ مِنْ عامٍ لِعامٍ
فَوقَ صَدرِ الهَيأَةِ العُليا لِمَحكَمَةِ العَدالَةِ
فِي سَرِيرِ الإِنتِداباتِ القَدِيمَةِ وَ الحَدِيثَةِ
تَمزِجُ الأَفيُونَ بِالدَّمِ وَ الدَّقِيقِ
وَ تَستَجِرُّ الحُلمَ مِنْ عَينِ الرَّقابَةْ
تِسعُونَ ..
بَلْ تِسعُونَ أَلفًا مِنْ عَذاباتِي
أُعاقِرُ لَيلَها عَلِّي بِها أَنسَى الذِي ما بَينَنا
- يا أُمَّةَ الخِصيانِ -
مِنْ صِلَةِ القَرابَةْ
وَ اليَومَ أَخرُجُ مِنْ ثِيابِي
مِنْ عَباءَةِ والِدِي
مِنْ تَحتِ جِلدِ الصَّبرِ
مِنْ صَمتِ المَلايِينِ التِي عاشَتْ عَلَى قانُونِ غابَةْ
وَ تَوَحَّدَتْ
لا بِالنِّضالِ وَ إِنَّما بِالكِذبِ فِي فَنَّ الخَطابَةْ
**
اليَومَ أَكفُرُ بِالوِئامِ وَ بِالخِصامِ
وَ بِالذِينَ استَخدَمُونا فِي الكَلامِ
عَنِ السَّلامِ
وَ فَرَّقُوا لَحمَ الشُّعُوبِ عَنِ العِظامِ
وَ أَستَرِيحُ مِنَ العِصابَةْ
وَ أُضَمِّدُ الجُرحَ القَدِيمَ لَعَلَّها تُشفَى الإِصابَةْ
**
جَرَّبتُ مِنْ تِسعِينَ أَنْ أَتَزَوَّجَ الهَمَّ الثَّقِيلَ
وَ أَكتَفِي بِالقادَةِ النُّجَباءِ عَنِّي فِي الحُرُوبِ
وَ فِي مُحاسَبَةِ الجُيُوبِ
وَ فِي الصُّمُودِ عَلَى الحُدُودِ
وَ فِي طُلُوعِ الفَجرِ مِنْ غَسَقِ الدُّمُوعِ
وَ فِي زُجاجاتٍ تُراقِصُها أَناغِيمُ الشُّمُوعِ
وَ فِي الذِّهابِ وَ فِي الرُّجُوعِ
وَ فِي الثَّباتِ وَ فِي الخُضُوعِ
وَ فِي مُداعَبَةِ الأَصابِعِ لِلضُّلُوعِ
وَ فِي العِبادَةِ وَ السَّعادَةِ وَ الشَّهادَةِ وَ البَلادَةِ
وَ اختِيارِ النَّائِبِينَ عَنِ الجَماهِيرِ العَرِيضَةِ
وَ المَرِيضَةِ
وَ اكتَفَيتُ اليَومَ مِنْ تِلكَ النِّيابَةْ
وَ مِنَ الجُيُوشِ
وَ ما ادَّعَتهُ مِنَ الصَّلابَةْ
وَ مِنِ اقتِرافِ الحَرِّ فِي ظِلِّ السَّحابَةْ
وَ مِنَ المَسِيرِ المُستَمِرِّ
مِنَ الغَيابَةِ لِلغَيابَةْ
وَ مِنَ الهَوانِ وَ لا غَرابَةْ
**
يا أُمَّةٌ
ثارَتْ جَحافِلُها
وَ ما قَتَلَتْ ذُبابَة
الدراسة:
يُعدُّ السّبك الصوتي واحدا من أهم الوسائل اللُّغوية الشّكلية التي تعمل جنبا إلى جنب مع السّبك المَعجمي والسّبك النحوي في جسد النّص الإبداعي .إذ يقوم بوظيفة الربط للعناصر المكوّنة لجزء من النص أو النص بأكمله صوتيا .وهو ذو حضور واضح في اغلب النصوص الشّعرية والنثرية وإن كان يختلف في درجة الحضور كما وكيفا ومصدرا .يعرّف بأنه "مجموعة الوسائل الشكلية التي تؤدي إلى ترابط النص من قبيل ،الوزن والقافية والتنغيم "وبعبارة أخرى هو البُعد المُوسيقي الواضح الذي يكاد يكون عنصرا أساسيا في بناء النصوص يحدث من خلال الانسجام والتوافق بين الحروف المكوّنة للكلمة داخل النّص ،إذ إن التركيب الصوتي للكلمة هو الذي يثير المعنى الإدراكي لّدى السامع نتيجة ما تُوحيه هذه الأصوات من انفعالات عاطفيّة ونفسيّة ممّا يشكل بطبيعته بُعدا جديدا لم يكن مُدركا من قبل فيبدو الصوت كما لو كان صدى للمعنى على نحو ما يقرر د.صلاح فضل.
ولقد تجلّت خُصوصية قصيدة اليوم اعتزلُ الكتابةَ في شّيوع عناصر السّبك الصوتي المتمثلة بالأساليب البديعيّة من قبيل ،التكراروالسجع والجناس والموازنة التركيبية وغيرها،وهي عناصر لم تذكرها كتب المنظّرين الغربيين ،فقد اكتفُوا بدراسة الوزنِ والقافيةِ والتنغيمِ وسنعمل في هذه الدّراسة على توضيح عمل هذه الأساليب صوتيا في هذه القصيدة .وقبل الخوض في التفاصيل لابد لنا من إلقاء ضوء على طبيعة هذه القصيدة التي نظمت عام ٢٠٠٨ م فكانت نبوءة صادقة عما يجري في المنطقة العربية من تناقضات وبيع مُعلن للهُوية وهي صرخة الإنسان المبدع المَسكون بأوجاع الكتابة ،وما لفظة الكتابة هنا إلا كناية عن اعتزال التفاعل مع الأحداث وهجرها واختيار الوحدة بديلا للواقع المرير ،وكان انتقاد الشاعر انتقادا واضحا وصريحا بأسلوب جدلي يقوم على بيان العلة والسبب وإقامة الدليل بهدف تشخيص الداء الذي استفحل في كيان الأمة العربية ولم تكن هذه الأساليب غاية في ذاتها إنما كانت وسيلة لديه صاغها مع مجموعة من الروابط المعجمية والنحوية .ومن ابرز هذه الأساليب التي سبكت النص صوتيا ،نقف على
أولا- التكرار:
عُولجتْ البنية التكرارية بأختلاف أنواعها في الدّراسات النّصيّة من منظور أثرها في السٌبك المَعجمي ولم يلتفتْ إليها أحدا من منظور أثرها في السّبك الصوتي متناسين أنّها تعمل على إثراء المنظومة النّصية للخطاب معجميا وصوتيا من خلال إعادة تكرار العنصر مع الاحتفاظ بالمدلول نفسه أو بان يتكرر العنصر مع حمل مدلول مختلف ،الأمر الذي يسهم في اتّساع رقعة السّبك المَعجمي والصوتي وقد أدّت هذه البنية في القصيدة وظيفتين :إحدهما وظيفة صوتيّة خالصة اقتضاها تركيب القصيّدة .والأخرى ،وظيفة بلاغيّة حِجاجيَّة اقتضاها السياق المقالي والحالي .ويمكن احصاء المكررات في القصيدة على النحو الآتي :
-    لفظة (اليوم):
•    اليوم أعتزل الكتابة
•    اليوم أخرج من ثيابي
•    اليوم أكفر بالوئام
****
-    (حرف النداء) مع اختلاف المنادي:
•    يا ايُّها المتقلبُون على الكآبة
•    يا أمّة سَلّتْ سُيوف الحرب.
•    يا أمّة ثارتْ جحافلُها .
****
-    تكرار الضمير (أنا):
•    أنا منذُ عام النّكبة الأوّلى
•    أنا منذ ذلك الوقت مَسكون باوجاع الكتابة
*****
-    تكرار (تسعون) ومشتقاتها:
•    ألوك الشعر من تسعين جرحا
•    تسعون ..بل تسعون ألفا من عذاباتي
•    جربت من تسعين أن أتزوج الهم الثقيل.
****
-    تكرار حرف الجر (في):
•    في سرير الانتدابات القديمة والحديثة وفي مُحاسبة الجُيوب
•    وفي الصُّمود على الحدود
•    وفي الذّهاب وفي الرجوع
•    وفي طلوع الفجر من غسق الدموع
•    وفي زجاجات تُراقصها أناغيم الشموع
•    وفي الثبات وفي الخضوع
•    وفي مُداعبة الأصابع للضُّلوع
•    وفي العبادة
•    وفي ظِلّ السّحابة
****
-    تكرار حرف الجر (من):
•    انسلخت اليوم من زمني
•    ومن وطني
•    ومن قدر انتمائي
•    واكتفيت اليوم من نفسي
•    ومن يأسي
•    ومن طرح السّؤال
•    من تسعين حرفا
•    اليوم أخرج من ثيابي
•    من عباءة والدي .
•    من تحت جلد الصبر
•    من صمت الملايين
•    واكتفيت اليوم من تلك النيابة
•    ومن الجيوش
•    وما ادّعته من الصّلابة
•    ومن المسير المُستمِّر
•    ومن الهوان .
****
-    تكرار حرف (السين):
(سَلّت ، انسلختُ، نفسي، يأسي، السُّؤال، تسعين ، مسكون ،تُمارس، سرير، تستَّجرُّ، استخدمونا، أستريح، تسعون، محاسبة، الابتسامة، السعادة، السحابة، المسير، المستمِّر)إذ نلحظ ما احدثه تكرار هذا الصوت من صفير عال أوحى بنفس قلقة ودلّ على الحُرقة والوجع بشكل انسجم مع رؤية المبدع مما ادّى إلى اتّساع مساحة السبك الصوتي في القصيدة كلها .
-    تكرار صوت (التاء) .
(المتقلبون ، الرتابة، انتمائي، تسعين ، اتفاقيات، التوحد، التحرر، الكتابة، أعتزل، تحترق، تمارس، انتدابات، تمزج، تستجير، تحت، توحدت، أستريح، تشقى، أتزوج، أكتفي، الابتسامة، اختيار، اكتفيت، تلك، ادعته، المستمر، قتلت) إذ نلحظ أن تكرار هذا الصوت يوحي بالتفتت والتمزق كما في قولنا :لت العجين أوبت العجين وكلها توحي بالمعنى ذاته وهوايضا يعبر عن الحزن والبكاء ويوحي بالتعب والمعاناة وكلها جاءت متناسبة مع ما اراد الشاعر إيصاله.
مما سبق نلحظ كيف أسهم التكرار من سّبك القصيدة صوتيا من خلال استمرار العنصر ذاته من أول النص إلى اخره ،فاخرج لنا نصا متماسكا صوتيا متلاحم الأجزاء بالتعاون مع عناصر السبك الأخرى المتمثلة بالسجع والجناس وهذا ما سنقف عليه في القسم الاخر من هذه الدراسة.
في السّابقٍ أعلاه قد وضحنا أثر البنى التكرارية بأنواعها في سّبك قصيّدة "اليوم أعتزلُ الكِتابةَ" صوتيا من خلال إعادة العنصر المعجمي بلفظه أو بمعناه من أوّل القصيّدة حتى أخرها ،بحيث عَملتْ هذه البنية على اتّساع مساحة السّبك المَعجمي والصوتي ،وقد تآزرت مع بنى أُخرى تمثلتْ بالسَّجْع والجناس فضلا عن الرّوابط النحوية المُتمثلة بالضمائر والأدوات من قبيل ،لكنّ وبل وحروف العطف وفي مقدمتها الواو وغيرها. وسنتكلمُ هنا عن أسلوبي السّجع والجناس .
ثانيا – السَّجع:
يُعرّف السّجع بأنه "توافق الفاصلتين من النثر على حرف واحد وهي في النثركمّا القوافي في الشّعر " وهو يتمتعُ بسمعةٍ إيقاعيّة ناتجة من طبيعة الأصوات التي تتشكل منها فقراته المُتساوية أو شبه المتساوية ،وتُعدُّ هذه الصفة هي الغَالبة فيه، الأمر الذي يجعله يتّصدر قائمة الفنون الصوتيّة وقد لحظنا أنَّه عملَ في القصيّدة على تقديم الدّعم الصوتِيّ بفعل النهايات المُتشابهة التي وفرّها ممّا شكلَ وسيّلة فاعِلة للإقناع ولاسيما هناك علاقة دلاليّة رابطة بين الكلمات المسّجوعة أسهم في سّبك النص صوتيا وتماسكه دلاليا،بسبب تلك المماثلة المعقودة بين الكلمات وعلى النحو الآتي: (الكآبة، الرَّتابة، الرَّبابة، دُعابة، الكِتابة، الجَنابة، العَدالة، الرَّقابة، القَرابة، الخطابة، العصِابة، الإصابة، النَّيابة، الصلابة، والسَّحابة، والعبادة، والسعادة، الشَّهادة، والبلادة،الذبابة)، وفي قوله أيضا: (زمنِي ، وطنِي، انتمائي، نفسِي، يأسِي، ثيابِي)، وفي قوله :(الوِئام، والخِصام، والسَّلام، والعِظام)
إذ نلحظ أن هذه الكلمات المسّجوعة كل فئة منها جاءت متفقة في حُروف السّجع مختلفة في الوزن اغلبها وهو ما يُسمّى في عِلم البديّع بالسّجع المُطرف ،وقع على مسافات مختلفة في القصيّدة واكبَ حركة المعنى وتقلباته الدّلالية المُختلفة أتخذه المُبدع وسّيلة لكسر إيقاع الانتظام
وشد انتباه المتلقين عبر تنوعه وقد تحقق السّبك من خلال التكرار الصوتي على مستوى السّجعة الواحدة ،وقد يمتد إلى أكثر من سجعة واحدة مكّونا وحدة صوتية ذات إيقاع متباين قد يكون إيقاع مستمر أو منقطع بحسب الحالة الشُّعورية التي يكون عليها المبدع.
ثالثا- الجناس:
يمثل الجناس "ثنائية صوتية خالصة، تتوافق فيها الصورة اللفظية بين كلمتين "فالجانب الصوتي يكاد يكون الركيزة التي يعتمدُ عليها، فهو شّكلٌ صوتيٌ يعزِّز الجانب الإيقاعي في النّص وصولا إلى المعنى المطلوب من خلال تحقيق التّجانس الصوتي بين لفظتين في الوقت نفسه الذي يقع فيه افتراقا دلاليا واضحا، ممّا يؤدي إلى ربط أجزاء النّص صوتيا وتماسكه دلاليا ،بما يثيره من تفكير في ايجاد الصلة بين الألفاظ المجَّانس معها .وقد تراجع هذا الأسلوب في القصيدة تراجعا ملحوظا. ربمُّا يعودُ السبب في ذلك ،أنّه لعبٌ فنيٌ بالألفاظ كان المبدعُ بعيدا عنه؛لأنّه ركزّ على الفكرة التي يبغي إيصالها.
وقد جاء في الألفاظ (عَريضة ومَريضة/ ربابة وذبابة/ دموع وشموع) فقد اتّفقتْ هذه الثنائيات في الأصوات خلا الصوت الأوّل منها مما أدّى إلى التلوين الموسيقي الذي أحدث نوعا من السّبك الصوتي الناتج عن الربط الحاصل بين اللفظتين.
وقد جاء هذا الجناس ضمن بنيات أسلوبية أُخرى من قبيل ،التكرار والسّجع ،وهذا يعني مُساهمة عناصر السّبك الصوتي مُجتمعة في اشعار المُتلقي بتماسك القصيّدة وترابطها صوتيا ومعجميا.
انظر: المصادر الآتية:
1)    بناء الأسلوب في شعر الحداثة ،د.محمد عبد المطلب.
2)    السبك في العربية المعاصرة بين المنطوق والمكتوب، د.محمد سالم ابو غفرة
3)    علم لغة النص النظرية والتطبيق، د.عزة شبل.
4)    الأساليب البديعية من منظور اللسانيات النصية د.أمل سلمان.

 

تعليق عبر الفيس بوك