نجحوا حينما هاجروا..

 

حميد السالمي

حدثني أحدهم ذات يوم عن صديقه قائلا: إن صديقي يعيش في العاصمة ويكره العودة إلى قريته؛ إذ لا يجد فيها من يقدره، أو يشعره بالاهتمام، أو حتى يساهم في دعم أفكاره، وهو شخص نشط ولديه الكثير من الأعمال التي تخدم مجتمعه وأمته، غير أنَّه خارج إطار قريته وفي كل بلد يحط رحاله فيه يجد التبجيل والاحترام والتقدير، كما أنَّ هناك من يتبنى أنشطته ويساهم معه مادياً ومعنوياً لتحقيق أهدافه.

إنَّ هذه المفارقة العجيبة ليست وليدة هذا العصر؛ إنما هي طبيعة بشرية نجد نماذجا لها في مختلف الحقب التاريخية تؤكد أنَّ الغالبية العظمى من البشر ترفض تقبل الأفكار أو الأعمال الكبيرة التي تأتي من المحيط القريب الذي تفرضه العلاقة والمعرفة كالقرية أو الأسرة، فنوازع النفس وأمراض القلوب عادةً ما تكون ناتجة عن التشابه أو التقارب بين مجتمع الأسرة أو القبيلة أو القرية وما سوى ذلك مما قد يشترك فيه الناس في محيط مُعين. 

 

تآمر إخوة يوسف عليه لقتله فأصبح بعدها عزيز مصر، وعمل محمد بن أبي عامر "حمَّارًا" فتخلى عن صحبته الفقيرة في الطموح والمحبطة وانطلق لطموحه قبل أن يُصبح حاجب الخلافة (الحاجب المنصور) والحاكم الفعلي للدولة الأموية في الأندلس، وغادر دافنشي إيطاليا إلى فرنسا فحُظي برعاية الملك حتى مات، كما أنَّ هتلر كان طموحه لا يتعدى أن يكون فنانا وهو في النمسا فرحل لألمانيا حتى أصبح سيدها الأول والساعي للسيطرة على العالم.

ومن يتتبع سِيَر العظماء في مُختلف الأمم والعصور يجد أن الكثير منهم هاجروا كي يحققوا نجاحاتهم وإنجازاتهم، فمُحمد -صلى الله عليه وسلم- كابد وعانى الأمرين في قريته قبل أن تحتضنه المدينة وينطلق منها لتأسيس أعظم الدول، وتتعدد النماذج إذ لا يُمكن حصرها ومنها آينشتاين وسلمان الفارسي، والرازي، والبخاري، ونور الدين السالمي، وغيرهم.

يقول الشاعر:

"وإذا البلاد تغيرت عن حالها

فدع المقام وبادر التحويلا

ليس المقام عليك فرضا واجبا

في بلدةٍ تدع العزيز ذليلا" 

فقد تكون الأسباب هربًا من واقع مرير كطغيان الحاكم وجبروته، أو التخلص من مُجتمع فاسد، وربما طلباً للعلم في أحايين أخرى، أو الرغبة في تحقيق أهداف عظيمة لا يمكن تحقيقها في البيئة والمجتمع المحليين؛ نظرا للحالة الاجتماعية الطاردة للإبداع والعمل والتميز، فالقدرة على العمل وتحقيق النجاحات مقرونة بتبوء المكانة الاجتماعية والقدرة على التأثير، وهو الذي يفقده الكثير من العظماء في نطاقهم المحلي كالأسرة ومجتمع القرية، حيث لم يتمكن النبي نوح من إقناع ابنه للدخول في دين الله، وكذب والد النبي إبراهيم - عليه السلام- ابنه، وخرج سلمان الفارسي من منزله مخالفاً والده باحثاً عن الحقيقة.

ما أعظم تلك الأنفس وما أروع كفاحها ونضالها لتحقيق أهدافها السامية التي خلدتها بأحرف من ذهب على صفحات اللجين، وكما قيل: "من علت همته طال همه"، ومن طال همه ما ارتاح له بال حتى يحقق لأمته وللإنسانية جمعاء ما يرتقي بهما نحو أعظم التطلعات والتقدم العلمي والمعرفي، نحو بناء الإنسان وتعمير الأرض.

إلى من يهمه الأمر: "انظر إلى النجوم المضيئة في السماء، حتى هي لا تبقى مكانها طوال الوقت! ".

 

تعليق عبر الفيس بوك