في ملكوت الموت ورحلة الأحياء

 

مسعود الحمداني

Samawat2004@live.com

 

عشرة نعوش زُفت يوم الخميس الماضي في ولاية صحم (خور الحمام) إلى مثواها الأخير، عشرةٌ من أسرة واحدة، (أمٌ، ووالد وما ولد: من وبنين وبنات)، تركوا هذه الفانية إلى دار أفضل، وإلى جوار ربٍ كريم ورحيم، ذهبوا بكامل أجسادهم إلى الرفيق الأعلى، يتأبط كل منهم ذراع الآخر، يحملون في أكفانهم مسك الحياة، ويرحلون كما ملائكة ينبعثون من الضوء البعيد في الزمن السحيق الذي لا يأقل نوره، ولا يخبو ضوءه، رحلوا كـ (حمامات) بيضاء إلى مقامهم الموعود.

هكذا هو الموت حين يداهمك على حين عجزٍ منك، يمسك بيدك ويأخذك بقسوةٍ عنوةً نحو الظلام الأبديّ، حيث مرقدك السرمديّ، لا يمهلك لتفعل شيئا أخيرا، لا يترك لك سانحة لتودّع أحباءك، لا يعطيك شربة ماء تعينك على الرحلة الأبدية، هو هكذا يأتي بغتة، ويرحل تاركا خلفه الآف الدمعات، والآف الغصات والحسرات، يأتي وحيدا ويرحل محملا بالأرواح.

لم يعد أحد إلى هذه الحياة مرة أخرى ليحكي لنا ما يدورهناك، في ذلك العالم الغيبيّ الذي لا يعلم ماهيته وكينونته سوى الله، عالمٌ اختلف في كنهه المحدّثون والمفسّرون، الذين يحكون عنه ما لا يعلمون، ويرسمون طبيعة المكان كما يتخيلونها: (ضيق لحود، ومرتع دود، وإما جنة وإما نار..)، ونقف ـ نحن الأحياء ـ أمام هذه الوصوف مذهولين، مأخوذين بالفزع، نتخيّل الصورة، ونحدد ملامح (الحياة) هناك.. ولا نعلم ما هناك.

ويأتي فريق ثانٍ ليطفئ كل تلك المشاهد، وينكر كل ذلك، حيث القبر في نظرته عالم صامت، ساكن، لا حركة فيه، يدخله الميت، ولا يقوم إلا حين ينفخ في الصور، والأمر يومئذ لله.. وفي كل الأحوال يموت الفانون ويذهبون ولا يعودون لهذه الدنيا ليحكوا لنا ما رأوا، وسنلحق بهم ذات يوم، فكل من عليها فانٍ، وييقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، وبين الحياة والموت خيط رفيع يربطنا بالسماء، يلف أعناقنا أينما اتجهنا، ويسيّرنا نحو طريق النهاية المحتومة، بطرق وأماكن وأوقات لا تخطر على بالنا.

عشرة نعوش تلتف بالبياض، يرفعها الدعاء، ويضمها التراب، أسرة واحدة عاشت في بيت واحد، وأسكنهم القدر متجاورين في مقبرة واحدة، وكأن الحب الذي جمعهم في الدنيا يأبى أن يفرقهم في الموت، ولكنهم في أرض لا مكان فيها للحديث، ولا مجال لتناول قهوة الصباح، ولا لتبادل النكات أو الضحكات، ولا لزيارات الأقارب، والأحبة، فسكناهم هناك حيث لا حياة لمن تنادي.

في المقبرة ـ ورغم بشاعة المنظر وهول الموقف ـ يتبادل أحد المشيّعين الحديث مع آخر حول تجارته ومغامراته، وإبله، وغنمه، تساءلتُ في نفسي: هل الموت لم يعد يحرّك في البعض شيئا؟!.. هل تخشبّت القلوب لهذه الدرجة؟!.. وهل المصائب والفواجع أضحت شيئا اعتياديا مألوفا لا يأبه لها البعض مهما بلغت قسوتها؟!!.. يا لهؤلاء البشر النسّاؤون!!..الذين لا يرون سوى معايشهم، ولا يتحدثون إلا بلغة المال والأراضي والتجارة..حتى وهم يقفون على أعظم واعظ في الكون..(الموت).

طوبى لمن رحلوا تاركين وراءهم طيب الأثر، تركوا ما حولهم، وذهبوا إلى ملكوت الله الواسع، أتى المشيّعون من كل مكان، أناسٌ لا يعرفون الموتى (مثلي تماما)، ولا يعرفون أحدا من أقربائهم، ولكنهم أتوا من كل حدب وصوب، ليظهروا تضامنهم، وعزاءهم: وزراء ومسؤولون كبار لم يتخلفوا عن واجبهم الإنسانيّ، ربما لأن المصائب تجمع البشر، وتوحّد الحزن، ولعل ذلك كرامة لهؤلاء العشرة المبشرين برحمة الله.. فالحياة التي تمتد بعد الموت هي التي يبحث عنها الخالدون منذ بدء الخلق، وحتى قيام الساعة.

في الموت رسالات وعظات وتنبيهات للأحياء لا يفهمها إلا قليل، وفي الموت الجماعيّ تتبدّى تلك الرسائل في أبهى صورها، وأوضح تجلياتها.. فالحياة دوما لوحات لا تكتمل.. فهل من مدكر؟!!..

رحم الله الموتى جميعا، ونسأل الله أن يجمعهم في الفردوس الأعلى، وأن يلهم من بقي حيا من أبنائهم، وأهلهم وذويهم الصبر والسلوان، ولا نملك إلا أن نقول: (إنّا لله وإنّا إليه راجعون).