القصة القصيرة جدا في الأردن.. سمير الشريف أنموذجا

 

أمين دراوشة – رام الله - فلسطين

لا شك إن القصة القصيرة جدا قد خرجت من رحم القصة القصيرة غير أن بنائها يملك مساحة صغيرة بعكس القصة القصيرة التي تمنح مساحة أكبر لتشابك الأحداث.
ويقول أحمد جاسم الحسين عن القصة القصيرة جدا إنها نص إبداعي متماسك يترك أثره في القارئ ويحثه على مزيدا من القراءة، وبالتالي تشكيل ثقافته عبر تناصاته ورموزه وقراءاته.
للقصة القصيرة جدا مميزاتها، وأهم ما أتفق عليه النقاد هي ميزة الحكائية، فهي شكل سردي وبالتالي تبدأ من الفكرة ومعالجتها "من خلال أحداث مركزة، تؤدّيها عوامل وشخوص معينة وغير معينة، في أفضية محدّدة أو مطلقة، مع الاستعانة بالأوصاف المكثفة أو المسهبة، عبر منظور سرديّ معين، ضمن قالب زمني متسلسل أو متقاطع أو هابط سرعة وبطئا". (جميل حمداوي. من أجل مقاربة جديدة لفن القصة القصة القصيرة جدا، موقع دروب 2009م، ص33).
مع اختيار مفردات لغوية وأسلوب معين للتعبير عن رؤية ومرجعية.
وبالتالي هي تروي حكاية ما عن شخص أو أكثر أو اختيار حادثة معينة من تاريخ الشخصية، فهي لا تحتمل كثرة الأحداث والشخصيات لذا هي تبدأ من الفعل نفسه. يقول الشريف في قصة "تعب":
"عاد من عمله يتأرجح تعبا، مشّط بعينيه كوكبة الناس الذين تجمهروا، سأل بحركة من رأسه، تبرع أحد الذين يملأ الغضون وجوههم صارخا:
- سارق النهار يوقع الحد على سارق الليل!!". (سمير الشريف. مجموعة "مرايا الليل" القصصية. عمان: منشورات وزارة الثقافة الأردنية. 2014)
يروي لنا الكاتب بأسلوب ممتع، حكاية أحد الأشخاص الذي يقف متسائلا بعد خروجه من عمله عن أسباب تجمع الناس وتجمهرهم، فيأتيه الجواب المفاجئ: إن أحد اللصوص الكبار يعاقب أحد الحرامية الذين يسرقون بالليل.
وكان لارتكاز الكاتب على الأفعال المضارعة (يتأرجح، تجمهروا، تبرع، يملأ، يوقع) أن أمد القصة بالحيوية والقوة، مما يجذب القارئ الذي يشعر إنه يعيش الحكاية، فالأفعال المضارعة تمنح القصة الحركة والزمن الحالي، وكأنها تحدث لحظة القراءة.
وفي قصة "جوع" يلج الكاتب في قصته إلى الحدث مباشرة، فهو لم يحدثنا عن الشخصية، وإن حدثنا عن زمن، يقول: "للشهر الرابع لم يتذوق أطفالي طعم اللحم، للمرة الرابعة أقف أمام الجزار أضم قبضتي على قروشي القليلة، للمرة الأخيرة أمسكتْ بي نظراته متلبسا بحيرتي قبل أن أمتطي سرج شجاعتي وأطعنه بسؤال:
- أحتاج... لديك عظمات للكلاب في بيتي". (المصدر السابق)
فمن هو هذا الشخص؟ ولكن من خلال السياق نفهم إننا بصدد رجل فقير وعاطل عن العمل، ولا يجد حتى العظام ليقدمها لأطفاله، وفي النهاية يتنازل عن كبريائه ويطلب حفنة عظام بحجة إنه يربي كلاب في بيته! يتناول الكاتب موضوع الفقر الشديد الذي يرزح تحته جل الشعب العربي، رغم الثروات الهائلة في جوف أرضه.
وصدمة النهاية هي من أبرز ما تمتاز به القصة القصيرة جدا. وهذا ما نراه في قصص الكاتب سمير الشريف، ففي قصة "قدوة" والتي يوحي عنوانها إننا بصدد شخصية محترمة ولها وزنها في المجتمع، يصدمنا الكاتب بالنهاية، يقول: "اُغرم بأفكار منظّر الحزب الذي أصبح نائبا له ولم يقرأ من كتاباته غير رسائله لعشيقاته". (المصدر السابق) فالشخص الذي يعتبر زعيم حزبه قدوة ومثال، لم يكن يعرف عنه سوى كثرة عشيقاته، ولا شك إنه وقد استلم منصب النائب أنه سيمارس الأعمال القبيحة التي يقترفها زعيمه.
فنحن نرى شخصيات انتهازية تسعى إلى احتلال المناصب القيادة، لتحقيق رغباتها الشهوانية على حساب البسطاء من الناس.
يكتب الكاتب قصصه بصدق وإخلاص، وبدافع من حالته النفسية التي تلح عليه ليفضح الاستغلاليين والانتهازيين الذين لا هم لهم سوى نهب وسرقة خيرات الوطن والادعاء بحبه والخوف عليه. الكاتب بقلبه الذي ينبض شوقا لرؤية الوطن قد علا وسما، يحاول من خلال كتاباتها تخليص البلد من أمراض المجتمع، والتي هي أوبئة مشتركة في عالمنا العربي، فثمة فقر ومرض وفساد يقصم ظهر المجتمع وبالتالي ينعكس على الدولة التي تصبح هشة وضعيفة، ويرزح تحت هذه الأمراض الطبقات الأكثر فقرا، والتي عليها أن تحصّل جزء يسير من حقها للاستمرار في الحياة غير الكريمة.
يقول الشريف في قصة "بيان": "بعد أن عاد من رحلة استجمام عقد مؤتمرا صحفيا عدد فيه إيجابيات السياحة الداخلية". (المصدر السابق)
فالمسؤول الذي لا يتوانى عن السرقة، ويندفع نحو رفاهيته ومرحه، يسافر إلى أقطاب الدنيا، ولكنه في حديثه مع الصحافة، يركز على أهمية تفعيل السياحة الداخلية، وجمال الوطن الساحر، ويدعوا المواطنين لزيارة المناطق الخلابة فيه. أما هو فلا يعنيه من كل هذا الكلام شيء، فالبلاد الأجنبية تستهويه أكثر من الوطن.
يؤرق الكاتب الموضوع الاجتماعي والأوضاع السياسية، ولا شك إن عن موضوع الحرب والتناحر وما يتركه من آلام وحزن مفجع وتشرد يلقي بظلاله على المجموعة، يقول في نصوص تحت عنوان مشترك، "حالات":
"أصوات المدافع لم تتوقف
جثث تملأ الطرقات
جروح يأكلها العفن
ذعر وبكاء وراية عجز
تناقلت الأنباء خبر جرح مراقب دولي
تدخلت كل الأطراف لإخلاء الجريح". (المصدر السابق)
يأخذنا الكاتب إلى آلام الحرب، حيث جثث القتلى في كل مكان، والجرحى يصرخون ألما دون تلقي المساعدة، والعجز الكبير في التخلص من الوضع المأساوي، وبطريقة ذكية يحول الأمر إلى الفكرة التي يريد إيصالها إلى القارئ الذي يتوقع نهاية معينة ليصدم أن الكاتب قاده إلى نهاية مغايرة، إذ يترك العالم كل أنات الجرحى والجثث المقطّعة، ليعتني بجريح أجنبي، فالنهاية تحدثنا إن دم الأجنبي أغلى بكثير من مئات القتلى والجرحى العرب.
ويستخدم الكاتب تقنيات القصة القصيرة جدا بطريقة جميلة توحي بمقدرته الأدبية، ونرى في قصة "مهنة" الصحفي الوطني الكبير الذي يكتب بشكل يومي بالصحيفة يستقي معلوماته عن بلده من الصحافة المهاجرة، في مفارقة لاذعة.
وهذا ما كرره الكاتب في قصة "انشغال"، يقول فيها:
"قبل حلول المناسبة، انشغلوا بتحضير اللافتات، في الموعد المضروب، لم يكن غير مجموعة أطفال يلثغون بعبارات تضيع بين حروفها مفردة الوطن". (المصدر السابق)
يدخل الكاتب إلى الحدث مباشرة بلا مقدمات، فالقصة القصيرة جدا لا تحتمل الإطناب، يتناول التحضيرات لمناسبة كبيرة تهم الوطن، ولكن نندهش لرؤية مجموعة من الأطفال يغنون للوطن ولا جمهور يملأ الكراسي، وكأن بالكاتب يقول إن الناس قد ملت من أحاديث السياسيين التي تتكرر في المناسبات الوطنية كل سنة، والمواطن يرى وضعه يزداد سوءا، ويتدحرج الوطن كله في طريق الهاوية.
يخيم الألم والحزن على قصص المجموعة، التي تعبر عن طموح الكاتب في مجتمع مزدهر ومتقدم، مجتمع خالي من الفقر والقهر والظلم، مجتمع مبدع يسعى نحو الكمال.
مجتمع منهمك بالقراءة، يقول في نهاية قصة "سطور":
"لأسباب كثيرة أحببت القراءةً، فهي تنسيك واقعك وتبني لك عوالم خيالية تعّوض بها عما أنت فيه وتخلصك من شحنات التوتر السالب الذي ينتابك وتطل بك على عوالم الآخرين الذين ربما يتقاطعون معك في دوائر كثيرة أقلها الإجماع على أنّ الكتابة ليست إلا تعبير عن أمنيات أحبطها الواقع فنكتبها تعويضاً لا شعورياً عما فاتنا". (المصدر السابق)
ولم يكن الكاتب سلبيا في النهاية، ونراه في قصة "تحول" يتطرق لموضوع الاعتقال السياسي، والقمع السلطوي، وتناوله الكاتب بطريقة جميلة ومواربة، يقول في قصة "تحول":
"الطاولة التي أسند عليها المحقق مرفقيه، كانت سنديانة وارفة الظلال تلجأ لها القطعان عند القيلولة وتحط على أغصانها الطيور عند شقشقة الفجر...
هل أدرك الرجل الذي استمات لسحب اعترافي معنى تغير الفصول؟". (المصدر السابق)
وهي دعوة لا مواربة فيها للتغيير، وإنه في النهاية لن يكون إلا الصحيح، فهذا الوطن بكل ما فيه من بشر وحجر وطيور وأشجار يستحق حياة كريمة، مليئة بالأمان والاستقرار الذي لا يتأتى إلا بالفعل الإيجابي.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك