صباح النشاط والسعي للرزق

 

مدرين المكتوميّة

كل صباح هو بداية لكل الأشياء الجميلة والرائعة، هو بداية حياة بتفاصيلها البسيطة، بداية لساعات من العطاء اللامحدود، هو أن تستيقظ على أمل أنّ هناك أقدارًا رائعة سيسوقها الله لنا، أنّ نعيش اللحظة أن هناك الكثير من الأحداث والأعمال التي سننجزها، فكل صباح هو مشوار طويل ننهي كل شيء فيه عند المساءات، وكل صباح هو فارق في الحياة.

ولأنّ كل صباح يختلف في كل مكان من هذا العالم، فأجدني اليوم انساق مع حياة صباحية بإيقاع السريع ففي لندن لا أحد ينتظر الآخر، ولا توجد ثقافة للانتظار والترقب كل شيء يمضي وفق زمن محدد وكل دقيقة هي فارق في الإنجاز، استيقظ وأنا أفكر أنّه لا وقت لديّ وعليّ المسارعة كباقي العالم الذي أتعايش معه لأستطيع أن أصل لما أريد وفي الوقت المحدد، مثل هذه الحياة تصنعها الثقافة، ثقافة العمل التي تعتمد على أن يعمل كل فرد ما في وسعه ليصل لمكان عمله بالدقيقة والثانية ولينجز أكبر قدر من الأعمال دون النظر للأمر على أنّه شيء محبط، عالم يؤمن أنّ للعمل قدسيته وأن الصباح ليس ملكا لأحد بل هو للعمل والإنجاز، ولكن السؤال الذي يدور برأسي فعلا؟ كيف وصلوا إلى هذه القناعات وكيف لهم كل هذه القدرة على العمل والاستمتاع بفنجان قهوة صباحي دون التفكير بما نفكر به نحن حين نستيقظ في الصباح ولا نجد الفطور جاهزا...؟ وكم يلزمنا من الوقت لنجد أنفسنا نستمتع بكل لحظات العمل التي تشكل لنا الرزق..؟

أعتقد أنّ الحاجة للعمل كمصدر وحيد للدخل مع الكم الهائل من الناس والمنافسة هو ما يجعل الأمر أكثر تنظيمًا، فعندما يشعر الفرد بأهمية ما يملكه ويعمل في المكان الذي يحب، عندها يصبح التفاني جزءًا من رد الجميل، عندما يجد الشخص نفسه أمام حاجة ماسة للعمل يضطر لأنّ يسابق الركب ليثبت لنفسه ولمن حوله قدرته على الحفاظ على وظيفته، وعندما يضطر الفرد للاغتراب والسفر وقطع الأميال ليحقق هدفه يصبح لكل شيء مذاقه ومتعته، لذلك يكون يقدم كل ما لديه من معرفة وطاقة في سبيل نجاح المهمة التي كلف بها.

وعندما نجد أنفسنا في مكان كلندن فإننا لا نشعر بتلك الصعوبة التي قد تخيل لمن يسمع عن بعد خاصة وأننا نعيش بمدينة تشكل تفرد وتنوع ملحوظ من البشر، فالعاملون والقاطنون فيها لا يجدون أي مشكلة في الانسجام والتعاون لتقديم عمل مشرف ولاستمرار تدفق الحياة بشوارعها الفكتورية، عندما أجد نفسي مضطرة لأخذ القطار صباحا في الساعات التي يمكنني فيها أن أحصل على مقعد أشعر بأنني في قمة الامتنان والسعادة ليتسنى لي اكتشاف وجوه من حولي وملامحهم وتحليل انتماءاتهم ففضول الشخص العربي يسكنني دائما، أمّا عند العودة عصرًا وعندما اضطر لحشر نفسي في الازدحام فلا أريد سوى أن اتنفس بسلام وألا أقع على أحدهم فحالة الاندفاع التي يعيشونها آخر النهار وفي نهاية يوم عمل أمر مزعج وصعب. لكنهم كمجتمع غير ملام فما يمرون به طوال نهارهم لا يعطيهم فرصة التقاط أنفاسهم لذلك تجدهم يعيشون مساءاتهم بكل اهتمام ومحبة.

 

أن تجد شخصا يسعى لأن يستيقظ صباحا ليصل لعمله في الوقت المحدد وذلك لينجز أكبر قدر من العمل أمر يجعلنا نشعر بغيرة التغيير والتجديد، وتحقيق المزيد من أجل صناعة الذات، فالعمل على النفس أمر يدفع بالشخص لأن يجد نفسه استثنائيا ومتفردا ويحقق الرضا الداخلي بكمالية ما يقوم به.

 

في حقيقة الأمر هناك الكثير من المواقف التي تجعلني أشعر بالقصور والخجل من نفسي عندما أرى طفلا لا يتجاوز الثانية عشرة يعزف مقطوعة موسيقية لكسب المال وأعود لنفس المكان بعد ٦ ساعات وأجده لازال في مكانه، ليحقق المطلوب منه ودخله اليومي، أجد عجوزا تبيع الكعك وتقف على قدميها منذ الصباح الباكر وحتى المساء دون أن تمتعض بل تظل ابتسامتها الهادئة هي أساس استيقاظها في كل صباح واستمرارها في صناعة كعك تفوح نكهته.

علينا أن ندرك أنّ الصباح هو مكامن الرزق، هو الحياة الأخرى التي نحلم بها، هي المستقبل الذي ننتظره، هو الشتاء الرائع الذي لا يتكرر، هو البداية التي تترتب عليها كل النهايات، هي كل تلك المحطات التي نقف عندها ونتعب للوصول للمكان الذي نقصده لذلك هنا يكمن الفرق، شعور بالحاجة، عند الحصول على كل ما نتمنى، المساواة في مختلف التفاصيل، ولأننا مرفهون لم ندرك أبدأ قيمة ما نمتلكه، بل نتذمر على الرغم من كل تلك النعم، فلو عشنا كما يعيش الآخرون سنجد أنّ الفارق الوحيد في السعادة هو الرضا والقبول والامتنان لكل ما حولنا وننتمي إليه ونمتلكه، ويكفي سببا للامتنان ضمان بيت وراتب فبدلا من أن يبحث من يحصل عليهما على طريقة للتهاون والتهرب من مهام عمله ينبغي له أن يقدم دليل امتنانه في صورة مزيد من جودة العمل والاتقان.