الذِّئَابُ تَطَيَّرَ

 

 

 قِصَّةٌ بِقَلَمٍ - يعقوب بن راشد  السعدي

 أَجْمَلُ مَا فِي الغَابَةِ الهُدُوءُ المُدْقِعُ الَّذِي يُخَيِّمُ عَلَى أَرَاضِيهَا وَسُهُولِهَا وَجِبَالِهَا, هِيَ غَابَةٌ خَضْرَاءُ بِمَا فِيهَا مِنْ مَنَافِعِ عِظَامٍ, لَكِنَّ لَا يَسْتَفِيدُ مِنْ مَنَافِعِهَا إِلَّا الذِّئَابِ الطَّائِرَةُ, أَمَّا بَاقِي سُكَّانِهَا فَقَدْ خِيَمٌ عَلَيْهُمْ الظَّلَامُ رَغْمَ نُورِ الغَابَةِ المُشْرِقُ, لَقَدْ تَكَالَبَتْ الذِّئَابُ عَلَى الأَسَدِ الشَّرِيفُ وَحَوَّطَتْ عَلَيْهِ مَنْ كُلُّ جَانِبٍ فَأَصْبَحَ لَا تَصِلُهُ عُلُومٌ وَأَخْبَارُ رَعِيَّتِهِ, أَخَذَتْ الذِّئَابُ تَزَيُّنَ لَهُ بِأَنْ الغَابَةُ وَمِنْ فِيهَا مَنْ السُّكَّانُ هُمْ فِي نِعْمَةٍ وَشُكْرٍ وَاِمْتِنَانٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ, فَالأَنْهَارُ تَضُخُّ مَائِهَا بِاسْتِمْرَارٍ دُونَ تَوَقُّفٍ لِتَسْقِيَ الغَابَةَ وَمِنْ بِهَا, وَالسَّاحِلُ يُغْدِقُ خَيْرَاتُهِ الوَفِيرَةَ بِرُخْصِ التُّرَابِ ، كَمَا أَنْهُ مِنْ شِدَّةِ حِرْصِ الذِّئَابِ عَلَى الغَابَةِ حَوَّلُوا اللَّيْلُ نَهَارٌ فَأَصْبَحَتْ الشَّمْسُ وَأَمْسَتْ مُشْرِقَةٌ طُولَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ, فَلَمْ يَعُدْ هُنَا مَنْ يَعِيشُ أَوْ يَعْشَقُ الظَّلَامُ, كَمَا إِنَّهُمْ مُهْدَوْ لِلعَامَّةِ مِنْ سُكَّانِ الغَابَةِ جَمِيعِ الطُّرُقِ مِنْ أَجْلِ أَنْ تُسِلْكِ الحَيَوَانَاتُ طَرِيقُهَا فِي الحَيَاةِ بِكُلِّ يُسْرٍ وَسُهُولِهِ.

الذِّئَابُ تَجْتَمِعُ كُلَّ مَسَاءٍ فِي أَوْكَارِهَا المُعْتَادَةُ تُخَطِّطُ مِنْ أَجْلِ نَيْلِ شَرَفِ رِضَاءِ الأسدَ, وَلَكِنَّ لِلأَسَفِ الشَّدِيدِ لَيْسَ مَا تُخَطِّطُهُ الذِّئَابُ هُوَ المَقْصَدُ وَالمَغْزَى, إِنَّمَا مَا هُوَ العَائِدُ وَالفَائِدَةُ الَّتِي تَدُرْ عَلَى هَذِهِ الذِّئَابُ مِنْ هَذَا التَّخْطِيطِ, فَمَا تَسْتَفِيدُ مِنْهُ الغَابَةُ وَسُكَّانُهَا شَيْئًا لَا يُذَكِّرُ مُقَابِلَ مَا تَتَجَرَّعُهُ الذِّئَابُ مِنْ إِرَاقَةِ الدِّمَاءِ عِنْدَمَا تُحِيطُ بِفَرِيسَتِهَا وَغَنِيمَتِهَا بَيْنَ أَنْيَابِهَا وَمَخَالِبِهَا, فَهِيَ لَا تَخْتَارُ إِلَّا الفَرِيسَةِ السَّمِينَةُ الَّتِي تُشْبِعُ نَهَمَهَا الجَائِرَ, وَتَتْرُكُ العِظَامَ وَمَا تَبَقَّى بِهَا مَنْ بَعْضُ اللَّحْمِ الَّذِي لَا يُذَكِّرُ لِمُعَاوِنِيهِمْ مِنْ سُكَّانِ الغَابَةِ الصِّغَارَ الَّذِينَ بَاعُوا ضَمَائِرَهُمْ لِلذِّئَابِ, أَمَّا البَقِيَّةُ مِنْ السُّكَّانِ البُسَطَاءَ فَيَعِيشُونَ عَلَى المُشَاهَدَةِ فَقَطْ دُونَ أَنْ يُنَبِّزُونَ بِبِنْتِ شَفَتَيْهِمْ, فَهْمٌ تَخَافُونَ الهُجُومَ البَاغِتُ الَّذِي رُبَّمَا لَا يُفِيقُونَ مِنْهُ إِلَّا حبيسون فِي أَحَدِ أَوْكَارِهَا.

الذِّئَابُ تَطِيرُ دَائِمًا فَوْقَ الجَمِيعِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ, وَإِنْ شَاءَتْ أَنْ تَطِيرَ أَمَامَ الجَمِيعِ طَارَتْ بَعْدَ أَنْ تَأْمَنَ نَفْسَهَا وَغَنَائِمِهَا, فَهِيَ أَذْكَى مِنْ أَنْ يَقَعَ أَيُّ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهَا القَذِرَةَ فِي أَيْدِي الشُّرَفَاءَ مِنْ سُكَّانِ الغَابَةِ أَوْ النُّبَلَاءِ الأَشْرَافَ مِنْ المُوَالِينَ لِلأَسَدِ, فَكُلُّ خَيْرَات الغَابَةُ لَهَا فِيهَا مَنَافِعُ وَأَسْهُمٌ وَقَسَمَةٌ, فَلَا أَحَدَ يَعْمَلُ كَمَا تَعْمَلُ الذِّئَابُ إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْهُ قِسْمٌ, هَكَذَا هِيَ أَعْرَافُ الغَابَةِ, وَمَنْ لَا يَشَاءُ عَلَى المُوَافَقَةِ مِنْ بَقِيَّةِ الحَيَوَانَاتِ عَلَى هَذَا العُرْفِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِمِقْدَارٍ كَبِيرٍ وَيَتَوَسَّعُ فِي رزقة بِالغَابَةِ أَبَدًا, فَيَكُونُ مَا يَحْصُلُ عَلَيْهِ هُوَ فَقَطْ قُوتُ يَوْمِهِ المَعْدُودِ, الَّذِي سُرْعَانَ مَا يَنْتَهِي قَبْلَ نِهَايَةٍ كُلُّ شَهْرٌ.

مُحِيطُ الغَابَةِ الجَمِيلُ الوَافِرُ فِي الثَّمَرَاتِ وَالرِّزْقِ الوَفِيرُ وَالخَيْرُ الكَثِيرُ هُوَ فَقَطْ لِلذِّئَابِ وَلَا يُحِقْ لِأَحَدٍ أَخَّرَ المُشَارَكَةَ فِيهُ, وَمِنْ تُسَوِّلُ لَهُ نَفْسُهُ مِنْ الحَيَوَانَاتِ المُطَالِبَةِ بِقَلِيلٍ مَا تَحْصُلُ عَلَيْهِ الذِّئَابُ, كَانَ يُلَاقِي العَقَبَاتِ وَرُبَّمَا عَاشَ عَلَى أَمَلٍ التَّرَقُّبُ وَالاِنْتِظَارُ إِلَى الأَبَدِ, وَرُبَّمَا يُثَنِّيهُ التَّعَبَ وَاليَأْسَ فَيَتْرُكُ كُلُّ شَيْءٍ لِيَعُودَ إِلَى مِنْ حَيْثُ أَتَى يَتَرَقَّبُ ظَلَّ الجَدْرَانِ لِيَحْصُلَ عَلَى الظَّلَالِ مِنْ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ المُحْرِقَةُ.

لَقَدْ سَادَ الفَسَادَ فِي الغَابَةِ كُلُّ شَيْءٍ, وَطَالَ حَتَّى أَبْسَطُ الأَشْيَاءِ, لَكِنَّ الجَمِيعُ لَا يَجْرُؤُ عَلَى التَّحَدُّثِ أَوْ الوُقُوفِ بِكَلِمَةِ حَقٍّ مَخَافَةً الذِّئَابَ المُتَسَلِّطَةَ, فَقَدْ يَخْتَفِي كُلُّ شَيْءٍ بِدُونِ شَيْءٍ وَلِأَيِّ شَيْءٍ مِنْ دُونِِ عِلْمِ البَقِيَّةِ أَيُّ شَيْءٍ, مِسْكِينَةُ حَيَوَانَاتِ الغَابَةِ, لَمْ تَظُنَّ يَوْمًا بِأَنْ مَرِضَ الأسدُ وَكَبَرٍّ سُنَّةٌ سَوْفَ يَدْفَعُ بَعْضُ الذِّئَابِ إِلَى الطَّيَرَانِ فَوْقَ الغَابَةِ كُلُّهَا, رَغْمَ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا إِنَّ حَيَوَانَاتِ الغَابَةِ تُحِبُّ وَطَنُهَا وَتَعْشَقُ الأَسَدُ, فَلَمْ تَرَيْ وَطَنًا يَوْمًا كَوَطَنِهَا رَغْمَ كُلِّ شَيْءٍ, وَلَمْ تَرَيْ أُسْدًا حَنُونًا كَمَلِكِهَا فِي سَائِرَ غَابَاتِ العَالَمِ, فَعَلَى كَثَّرَ هِجْرَةً بَعْضُ الحَيَوَانَاتِ فِي المَوَاسِمِ خِلَالَ السَّنَةِ وَزِيَارَتُهَا لِغَابَاتٍ أُخْرَى بَعِيدَةٍ, إِلَّا إِنَّهَا رَغْمَ كُلِّ شَيْءٍ تَفَضُّلٌ أَنْ تَمُوتَ فِي غَابَتِهَا الجَمِيلَةُ, فِي كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الغَابَةِ هُنَاكَ حَيَوَانَاتٌ تَتَضَرَّعُ بِالدُّعَاءِ لِرَبِّهَا عَلَى أَنَّ يَشْفِي الأسدُ وَتَعَوَّدَ الغَابَةَ كَمَا كَانَتْ فِي إِخَاءٌ وَالسَّلَامُ وَمَحَبَّةٌ وَتَسَامُحٌ, وَتَرْجِعُ كُلُّ الحَيَوَانَاتِ تَتَقَاسَمُ لُقْمَةَ العَيْشِ مَعَ بَعْضِهَا دُونَ إِسْرَافٍ أَوْ تَبْذِيرٍ.

أُسْدًا وَاحِدٌ بِالغَابَةِ وَذِئَابِ طَائِرَةٍ كَثِيرَةٍ تُحِيطُ بِهِ وَتُعْتِمُ عَلَيْهِ أَحْوَالَ رَعِيَّتِهِ, فَلَا يُلَامُ الأسدُ وَلَا تُلَامُ الرَّعِيَّةُ, رَغْمَ صَلَاةِ الحَيَوَانَاتِ وَتَضَرَّعَهَا لِيَنْزِلَ المَطَرَ حَتَّى المَطَرُ خَاصَمَ الغَابَةَ, فَعَمَّ الجَفَافَ وَالقَحْطَ أَرْجَاءُ الغَابَةِ, مَات الزَّرْعُ وَجَفَّ الضرع, فَأَخَذَتْ تَنْشُدُ الحَيَوَانَاتُ القَصِيدَةُ المَشْهُورَةُ..

بِلَادِي وَإِنْ جَارَتْ عَلَى عَزِيزَةٍ وَأَهْلِي وَإِنْ جَارُوا عَلَى كِرَامِ بِلَادِي وَإِنْ جَارَتْ عَلَى عَزِيزَةٍ

وَلَوْ إِنَّنِي أَعْرَى بِهَا وَأُجَوِّعُ

 

وَهُنَا حَضَرَ مَنْ يُعَكِّرُ صَفَّوْا الحَيَوَانَاتُ, نَعَمْ لَقَدْ حَضَرَتْ الذِّئَابُ الطَّائِرَةُ وَحَطَّتْ فِي وَسَطِ المَيْدَانِ وَالحَيَوَانَاتِ تَنْشُدُ, لَكِنْ مَا زَادَ الأَمْرَ غَرَابَةً عِنْدَمَا تَوَقَّفَتْ الحَيَوَانَاتُ عَنْ النَّشِيدِ خَوْفًا مِنْ الذِّئَابِ, أَشَارَتْ الذِّئَابُ عَلَى الحَيْوَانَاتِ بِالمُضِيِّ فِي إِنْشَادِ القَصِيدَةِ, وَأَخَذَتْ الذِّئَابَ تَتَرَاقَصُ عَلَى أَنْغَامِهَا مَعَ بَعْضِهَا البَعْضُ وَهِيَ تَضْحَكُ وَعُيُونُهَا تَنْظُرُ إِلَى حَيْوَانَاتِ الغَابَةِ بِكُلِّ اِحْتِقَارٍ.

 

تعليق عبر الفيس بوك