عدنان كنفاني في مجموعته القصصية:

"الوارثون" ينكؤون الجراح الطازجة


 

أ.د/ يوسف حطيني – ناقد وأكاديمي فلسطيني

يهدي القاص والروائي عدنان كنفاني مجموعته القصصية "الوارثون" في عتبته النصية الأولى "إلى أرواحهم السابحة في قداسة الملكوت"؛ وحين تبحث عن عودة الضمير في كلمة أرواحهم في السياقات السردية اللاحقة تكتشف أنّـ "هم" أولئك الذين استشهدوا في حرب لا تليق بطموحاتهم، حربٍ أجبروا عليها، وسقطوا فيها: مَنْ قاتلَ منهم، ومن لم يقاتل.
تتكون مجموعة "الوارثون" من ثمانية عشرة قصة قصيرة، تدور حول ثيمة أساسية كبرى هي معاناة الشعبين السوري والفلسطيني، ومآسيهم المتعددة الأبعاد، وفجيعة أرواحهم في مواجهة حرب كونية على بلد يعني للسوريين أرضاً وهوية، ويعني للفلسطينيين حلماً وجسراً للعبور نحو فلسطينهم الحبيبة.
في هذه المجموعة القصصية يغوص كنفاني بعيداً في نفوس شخصياته، ويمنحها بعداً سيكولوجياً، قادراً على تعليل تحوّل الذين لا يريدون القتال إلى ذئاب نبيلة، لأنّه " إذا كان لا بد أن تواجه الموت قتلاً، عليك أن تصبح ذئباً.!"، كما تقول إحدى شخصيات قصصه، بعد أن دخل الثيران الحيّ، وراحوا يقتلون ويدمرون كل شيء في طريقهم.
ويمكن أن نلمح تلك الكثافة السيكولوجية للشخصيات في قصص أخرى من مثل قصة "عالم مخملي" وقصة "هواجس محنطة"، وقصة "فسحة النور" التي ترصد حالة اختطافٍ لمجموعة من الشبّان والفتيات، من قبل مجموعة من المسلحين بالفتاوى التي تبيح كل شيء، فينتهي أمر الشباب بسرعة، فيما تُعَدّ الفتيات لأمر آخر:
"بعد لحظات، رشقات رصاص، ثم صمت مطبق، وفحيح يختلط بإيقاع أنفاس متوحّشة، وأربعة رجال يتساقطون تباعاً وتجرّ جثثهم إلى حفرة قريبة"، أمّا الساردة وميسون؛ فقد تعاملتا مع ما ينتظرهما بطريقتين مختلفتين: الساردة تخرج من جسدها؛ وتتركه لهم ينهشونه بأسنانهم وأظافرهم ولحاهم القذرة، وميسون تنظر نحوها برجاء كي لا تخبر القتلة أنها جرحت رسغها طلباً لموت عزيز قبل أن يدنس القتلة جسدها، وها هي ذي "الدماء تتدفق من رسغها الأيسر، تجاهد كي تخفيه فتدسّه تحت جسدها العاري، والدم ينساب قانياً تتلقفه مزق ثيابها، ودفاترها وكتبها"، وهكذا تخرج البنتان من مأزقهما: الأولى لا تسلم روحها، والأخرى لا تسلم جسدها، لأبطال حرب مجنونة تبيح كل ما هو غير إنساني.
وإذا كانت الفتاة تدفع ديّتها من جسدها وفقاً لقوانين هذه الحثالة؛ فإن الرجال يدفعون ديّاتهم أمولاً طائلة، ربما للإفراج عن مخطوفين قد ماتوا، وربما ليُقتلوا مع من حاولوا افتداءهم بالمال، وفي "أجنحة الدهشة" مثال على حالة اختطاف يحاول عجوز سبعيني إنهاءها بالمال، حيث يخبره وطواط الليل قائلاً عبر اتصاله الأخير:
"أنت وحدك والمبلغ في كيس بلاستيكي أسود، في ساحة "البوّابة" الساعة الثالثة عصر اليوم، وعليك أن ترتدي قميصا أحمر".
 ثم يأتي التعقيب (والتعقيب هنا جزء من الحكاية)، على النحو التالي:
في صباح اليوم التالي، عثر بعض المارّة على جثة "عجوز سبعينيّ" ملقاة إلى جانب حاوية قمامة.!"
ولا يتسع المقام ها هنا لتقصي كلّ الموضوعات الجزئية التي تناولها المجموعة، والتي تدور في فلك الأزمة التي افتعلها دعاة الديمقراطية والحرية في سورية (باستثناء القصص الثلاث الأخيرة التي تبدو مقحمة على المجموعة)، ولكن لا بأس من الإشارة إلى قصة مهمة جداً هي قصة "حكمت المحكمة"، حيث يقتل الابن عائلة كاملة، لأن أفرادها ـ وفقاً لرؤيته الشوهاء ـ ضالون، ولأنه ينفذ فيهم "حكم الله" غير نادم على جريمته النكراء، لأنه ببساطة تعرض لغسل دماغ يجعل القتل مباحاً:
"يرسم القاضي نظرة جادّة وصارمة على وجهه:
ـ هل تعترف بأنك ارتكبت كل ما جاء في محضر الاتهام و.........؟!
ـ نعم أعترف..
(...)
ـ لقد قمتَ بقتل عائلة، أمّ وأطفالها الأربعة ذبحاً حتى الموت، وجرائم أخرى..
ـ نعم.. لقد نفّذت فيهم حكم الله".
ويستثمر كنفاني مجموعة من التقنيات في قصصه أبرزها تقنيات تقديم الزمن القصصي، ويتجلى ذلك بشكل خاص في الاعتماد على الاسترجاع في نهاية القصة لتسويغ التغيرات التي تطرأ على الشخصية، والاعتماد على التوازي بين زمني الماضي والحاضر، والبدء من الحاضر/ أزمة القصة. وما دمنا بصدد قصة "في المحكمة"، فإن من المناسب الإشارة إلى أنها تنتهي باسترجاع زمني يسوغ تبدل الشاب يسار/ عبد الحفيظ من الآدمية إلى الوحشية:
"حدث كل ذلك صدفة، وكان "يسار" قد دخل في عامه السابع عشر، يوم أسرع يدخل أقرب مسجد في الحيّ العشوائي في طريق عودته إلى البيت وقت صلاة المغرب ليلتقي بالشيخ "كريم" (....):
ـ دعك من "يسار" فهو اسم بلا معنى..
ـ كما تشاء شيخي..
ـ كن "عبد الحفيظ" اسم مبارك.."
وفي مجال التدليل على التناوب بين زمنين، تمكن ملاحظة ذلك في قصص متعددة، أو لنقل إن التناوب بين الأزمنة هو لعبة كنفاني البنائية المفضلة، ويمكن أن نشير إلى قصة "شجرة الليلك" وقصة"الوارثون"، حيث يتصدر القصة الثانية حاضر روائي، يقود إلى ماض يحكي حكاية أسرة فقدت كبيرها، لتنطلق من ثم إلى وفاة عبد الغني الأخ الكبير الذي يكبر أخاه بخمس دقائق، ويفقد حياته مشنوقاً في مخيم اليرموك علي يد القتلة.
ويمكن أن نمثّل للقصص التي تبدأ من الأزمة بأمثلة متعددة أيضاً، على نحو ما نجد في "عالم مخملي" و "رصاصة وإصبع مكسور"؛ فالحاضر القصصي في "رصاصة وإصبع مكسور"، يبدأ من السياق السردي التالي:
"ـ اطمئن، أنت بخير..
جملة صغيرة جعلتني أتحسس أطرافي، يدي تؤلمني، وكل ما حولي مصبوغ بالبياض.
ـ كيف لا تؤلمك يدك وقد كسَرْتَ بها عظام أنفه..!"
ويهتمّ عدنان كنفاني في مجموعته القصصية بالتأثيث اهتماماً بالغاً، فهو يحتل جزءاً معتبراً من السرد، وقد يصبح المكان المؤثَّث بطلاً من أبطال القصة على نحو ما نجد في قصة "غُبار"، فالغبار إيقاع مكاني يملأ القصة ويقتحم فضاءها، كما نجد ذلك في "شَجرةُ اللَيلَك" التي تمتاز بتوازيات زمنية لافتة، وتجعل من شجرة الليلك/مؤثِّثة المكان الأساسية عصية على الاقتلاع:
"أم ياسر تغطي رأسها بوشاح أبيض، وتنشج بصمت.
ـ عندما غادرنا حوش جدّك "الصفدي" يابا، رأيت بعينيّ، عدداً من البتلات الليلكية تشق سطح التربة، مكان الشجرة الشهيدة، وتخرج إلى النور".
ويستخدم القاص قي واحدة من قصصه تقنية (الميتا سرد)، حيث يقتحم المؤلف غمار سرده في قصة "هواجس محنطة" عارضاً صعوبة أن يشعر الكاتب المبدع على وجه الخصوص، بالعجز، وأن تتزاحم الأفكار بفوضى، وتقاتل كي تخرج دفعة واحدة، لتروي عن كل شيء، قبل أن يروي قصته عن "أم أحمد" التي قتلوا زوجها ذبحاً أمامها، واغتصبوا ابنتها. ليعود في نهاية القصة، بوصفه قاصاً لا سارداً، ويؤكد أنه يحتاج إلى وقت إضافي كي تهدأ نفسه وذاكرته، وكي يعيد ترتيب أفكاره، التي يمكن أن تولد تباعا على إيقاع هذا الجنون.
*           *           *
حكايات "الوارثون" هي حكايات الوجع التي لا تنتهي، حكايات أم أحمد، وأبو يسار، وأبو عوني الذين يدفعون ثمن حرب لم يخوضوها، من دمائهم وأرواحهم وأحلامهم.
لقد نكأت جراحاً مفتوحة أيها القاص، وجراحاً قديمة لم تندمل بعد.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
هامش:
•    الوارثون (مجموعة قصصية)، الهيئة السورية العامة للكتاب، دمشق، 2018.
•    عدنان كنفاني: من مواليد يافا 1940، له بضعة عشر كتاباً، بين روايات ومجموعات قصصية، بالإضافة إلى كتابه عن أخيه الشهيد، وعنوانه: "غسان كنفاني.. صفحات كانت مطوية".

 

تعليق عبر الفيس بوك