د. صالح الفهدي
سألتُ نفسي وأنا أنظرُ إلى ثلاثةَ صبيةٍ تتراوحُ أعمارهم بين العاشرةِ والثانية عشرة وهم يتخطُّون رقابَ المستمعينَ لخطبةِ الجمعة: من علَّم هؤلاءِ الصِّبيةِ -وقد جاؤوا متأخرين- تجاوز الرِّقاب حتى يصلوا إلى الصفوفِ الأُولى في المسجدِ..؟! الإجابةُ -بلاشك- مدركةٌ عند أصحابِ النُّهى، وهي: أنَّهم لربَّما قلَّدوا أباهم، أو رأوا عدداً من المصلِّين يأتون متأخرين، ثم يبدأون في لَيَّ ظهورِ النَّاس، وتخطِّي رقابهم، والدَّعس على أجسادهم للوصول إلى أمكنةٍ مُتقدِّمة..!
إن تداعيات هذا المشهد كبيرة وجسيمة..!! وسأربط هنا بينه (كجزءٍ مرتبطٍ بأداءِ فريضةٍ دينيةٍ)، ومنهجية السُّلوك التربوي الإنساني، بمعنىً آخر سأُحاول أن أبيِّنَ أثرَ مثل هذا الموقف داخل المسجد بالمسلك التربوي والمفاهيم الأخلاقية لأولئك الصِّبية في مستقبل حياتهم.
ونبدأُ بالقول إنَّ الإسلامُ دينُ الضَّبطِ والنِّظامِ في كل تفاصيلهِ، بيدَ أنَّ المجال لا يتَّسعُ للخوضِ في هذه التفاصيل، لكنَّ الصلاةَ كفريضةٍ دينية هي عينُ الانضباطِ والنظامِ سواءً أكان ذلك في أوقاتها، أو طُرقِ أدائها، أو انتظام الصفوفِ، ومحاذاةِ الأقدامِ، وتراصِّ المناكب، والخشوع، وغير ذلك مما يُهذِّبُ سلوكَ المسلم، ويصقل أدبه لالتزامِ النِّظام والانضباط في مجملِ حياته. فإذا انتهكت هذه المبادئ الأساسية لهذه الشعيرةِ أو لغيرها، انتفت الحكمةُ التي تتقصَّدها في سبيل تقويم السُّلوك البشري، وإصلاحِ النَّفس "وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ "(العنكبوت/45).
ومن هنا يُمكننا القول بأنَّ أولئك الصِّبية الذين جاؤوا متأخرين عن الصلاة، فتجاوزوا المصلِّين، وتقاحموا فوق ظهورهم، وداسوا على ظهور أياديهم إنَّما حصلوا على ترخيصٍ لهذا الفعل مما يعني أن مفاهيمَ معيَّنةٍ ستتكوَّنُ في ذواتهم من أنَّه لا غضاضةَ من القدومِ متأخراً إلى المسجدِ ما دمت ستتقدَّم إلى الصفوفِ الأُولى..! ولننقل هذا المفهوم إلى الواقع الاجتماعي خارجِ بيئة المسجد، لنجدَ ضرر ذلك المفهوم واضحاً في التنشئة – باعتبارِ المسجدِ مؤسسةً تربوية- لهذا سينشأ أولئك الصِّبية على مفاهيم مغلوطة منها: أنَّ غير المنضبط في وقته، ومواعيده لن يجد ما يوقفه عن الوصول إلى المُقدِّمة في نهايةِ الأمر..! وهذا ما يحدثُ في المناسبات والاحتفالات حين يصلُ الضيوف المتأخرون فيحدثون جلبةً جرَّاء حرجَ المنظمين وإصرارهم على وضعهم في المُقدِّمة..!!
وسينشأ أولئك الصبية الثلاثة الذين تجاوزوا الصفوف في المسجد على تجاوزِ طوابيرِ النَّاس المصطفَّةِ لخدمةِ من الخدمات في المصالحِ العامةِ، أو السُّوقِ، أو الشارعِ، لأنهم منحوا في المسجد إذن التَّخطي فوق النَّاس فلا تثريبَ عليهم أن تجاوزوهم خارجه، فالفعلُ خارج المسجدِ أهونُ من داخله ..!
وسينشأون على تجاوزِ القوانينِ التي سُنَّت بغرضِ إنصافِ الجميع، ومساواتهم، إذ إنهم تعوَّدوا أن يتجاوزوا الناس فلا يُعاقبهم أحد، ولا يُعيق تقدِّمهم زاجر، وإن صعدوا على أكتافهم في تحقيق المصالح، والحصول على الترقيات، أو كسب المزايا..! وقد يدفعهم تجاوزهم القوانين إلى دفعِ الرِّشى لتحقيق المصالح..!
وسينشأون على خُلُق الأنانيةِ حينما لا يبالون بالمُجتمع الذي يتخطُّونه بأقدامهم، ويفرجِّون صفوفه بأياديهم، إذ إنهم لا يكترثون لمن تقدَّمَ، ولا منَ هو في مقامِ الأبِ أو كبرِ السنِّ بل يحفلون للموضع المتقدِّم الذي سيكونون عليه في مقدِّمةِ النَّاس، الأمر الذي يجعلهم يحقِّرون مقامَ الكبيرِ في نفوسهم، ويقدِّمون أنفسهم عليه مهما كان فضله عليهم، أو قرابته منهم، أو واجبهم نحوه..!
وسينشأون على مفهوم الفكرةِ المغلوطةِ للبعضِ أن أجرَ الصفوف الأولى أعظمُ من الأخيرة، فيحسبون فعلهم فضيلة يُمتدحون عليها، بينما هو فعلٌ شائنٌ يستحقُّ اللومَ والتقويم، فهو مخالفٌ للمقصد الحكيم الرامي إلى أنَّ التبكير للصلاةِ هو الأعظمُ في الأجرِ بغضِّ النظرِ عن الصفوف الأُولى..! سينعكسُ هذا الأمر على فهمٍ خاطئ للدين بأنَّه قائمٌ على المظهريةِ والمراءاةِ بدلاً من الاعتناءِ بالجوهر، وتهذيبِ السلوك..!
وسينشأون على اعتبارِ أنَّ مزاحمة النَّاسِ، ومُباعدة أجسادهم، وأذيَّتهم فعلٌ مأجورٌ فقد رأوا الكبارَ يفعلونه، بل ورأوا الآباءَ وهم يجرُّون أبناءهم فوق رقاب النَّاس، ليسهل عليهم فيما بعد في الحياةِ العامَّة الضغط على رقاب الناس، والمشي على أجسادهم من أجل نيلِ الثوابِ من الله ..!!
وسينشأون على تحقير العقاب من جرَّاء تجاوز النَّاسِ دون لومٍ أو ردع، وهو ما سيشجِّعهم على تجاوز المجتمع في أخلاقه، ومصالحه، وسائرِ شؤونهم، فقد جرَّبوا ذلك في المسجدِ ولم يوقفهم أحد عن ذلك، إذن فقد حصلوا على إذن المجتمع في أهمِّ مؤسسة تربوية..!
بهذه الافتراضات المحتملة ربطت ذلك المشهد الذي قد يُرى عفويَّاً في تجاوزٍ بريءٍ لبعض الصبيةٍ للصفوف في المسجدِ بمشاهدَ في الحياةِ الواقعيةِ، وهو في اعتقادي ربطٌ لهُ ما يبرِّرهُ لكون المسجدِ مكاناً تربويَّاً لتخلُّق النفوس بالخلقِ الحسن، وتقويم السلوكِ تقويماً يعينها على الانضباطِ والنِّظام في الحياةِ الاجتماعية. ما فائدةُ العبادةِ إذن إن لم يكن أثرها واضحاً في الحياةِ العامة، والسلوك الإنساني..؟!
فإذا نظرنا إلى السنَّة النبوية الشريفة وجدناها تُربِّي النَّفس، وتقوِّم السلوك، ففي حديثٍ مرويٍّ عن جابر بن عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(اجْلِسْ ، فَقَدْ آنيت وآذَيْتَ)[1]، والسؤال هو: لِمَ لا يقولُ الإمامُ للمتخطِّي رقابَ النَّاس ما قالهُ عليه السلام للرَّجل؟! إن كلمة (اجْلِسْ ، فَقَدْ آنيت وآذَيْتَ) هي ردعٌ عن كلِّ ما ذكرتهُ ما أفعالٍ محتملةٍ سينشأُ عليها أولئك الصِّبية في مستقبلِ حياتهم فمعناها أنَّك قد جئت متأخراً ومع ذلك تؤذي الناس بتخطِّي رقابهم..!
إنَّه موقفٌ واحدٌ لا يعنيني فيه العددُ ولكن الدَّرس، فقد أردتُ أن أربط أثرَه الجسيمِ على الحياةِ الإنسانية في مختلفِ تداخلاتها، وتعقيداتها، مبيِّناً من خلالهِ أنَّ المفاهيم المغلوطة قد تتكرَّس في المسجدِ أو قد تُصلحَ فيه، ويُقاسُ على هذا الموقف مواقفَ أُخرى لها انعكاساتها في الحياة العامَّة، فعلينا أن نرى أبعادها العميقة، لا أن نختزلها في ذاتها..!
الشاهدُ أن العبادة هي تربيةٌ للإنسانِ لا مجرَّدَ شعائرَ تؤدَّى كأنَّها مجرَّد عادات، وفوق ذلك فإنَّ السلوكات الخاطئة المرافقة لها ستكونُ لها انعكاسات تربوية أخلاقية على تربية الإنسانِ خُلقاً، وفكراً، ومعاملةً، وفهماً.. ومن هنا لنعلم أننا لكي نُصلح أحوالنا فيجب أن نعي مفاهيم العبادة ومقاصدها وما يُحيطُ بها من دروسٍ حكيمة فتركها قد أنتجَ والله مفاهيم خاطئة أضرَّت بمجتمعاتنا..!
[1] - رواه أبو داود (1118) وابن ماجه (1115)، و صحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.