واقعنا الذي نحياه

...
...

عبدالرزاق بن علي

في عَصر الفتن الذي نعيشه، يقتل الأطفال والصبايا والشيوخ في كثير من الجبهات التي وُجدت عُنوة من أجل سفك دماء العرب، وتنهض كثيرٌ من المدن العربية مُجهدة على صَوت أزيز الرصاص، ويَسْبي شذاذ الآفاق نساء العرب في جبهات القتال، بعد ملء جيوبهم بأموال الدول المانحة، وتوشيح صدورهم بسلاسل الطلقات التي دفع بعض الشيوخ أثمانها بسخاء، ويغتنمُ آلافٌ من الأطفال بعض الدقائق لهجعة قبل ليل الرعب الطويل، ويصرخ بعضُ المذيعين في القنوات البائسة إنَّ النصر قادم قبل مُنتصف الشهر الجاري، ويُباع النفط بأبخس الأثمان من أجل تمويل حروب داحس والغبراء الجديدة، ويبسط السجاد الأحمر في كثير من القصور الباذخة لوفود تأتي من بعيد لهدف وحيد، وتقتتل عصابات الذبح في طرابلس الغرب ليل نهار بعد أن نام سيدها نومته الأخيرة، وتُنفق بلايين الدولارات من أجل أن تخرب الشام، وتهاجر الطيور من عرائشها الظليلة، وقبل أن يخوض أبناؤها الأبطال معاركهم من أجل تحرير مدنها وقراها، وتهب لنجدتهم دببة الروس القاهرة. وتسعد بعض العواصم العربية بأخبار سقوط الصواريخ الإسرائيلية على المسجد الأموي وقبر صلاح الدين، ويبارك بعض صُنَّاع القرار صفقة القرن من أجل تسليم مفاتيح القدس بمساجدها ومآذنها وكنائسها لأحفاد هرتزل وبن غوريون، وتوطين أهل فلسطين بين كثبان الصحاري الكثيرة، وتسقط عاصمة الرشيد بخيانات بعض أهلها القادمين على ظهور دبابات "الإبرامز" والمبركافا"، وبنشر وباء الكوليرا في مجاري مياه بلاد المليون شهيد، وتُسن القوانين التي تشرِّع للشذوذ والمثليَّة بدعاوى حقوق الإنسان في بلد الزيتونة وعُقبة ابن نافع وأبي زمعة البلوي ومحمد الطاهر بن عاشور، ويلقي شباب العرب بأنفسهم في البحر طلبا لعمل وراتب وزوجة شقراء وسيارة مناسبة، بعد أن عجزت بلدانهم عن تحقيق أحلامهم الصغيرة، وتعجز جامعة الدول العربية عن الانعقاد من أجل إصدار بيانها المعتاد بالتنديد بالمجازر الكثيرة، وتهاجر بهجة الحياة اليمن السعيد لتختبئ في كهوف جباله مع قصف لا ينتهي!!

ليس بيننا من يَسْعد بواقعنا، ولكن أغلبنا يخير أن يتابع ما يحدث من خلال نشرات الأخبار إن وجد بعض الوقت خلال لهاثه الطويل من أجل لقمة العيش الصعبة، وكثيرون آخرون لا يهتمون، بل لا يجدون دواعٍ للاهتمام لانشغالهم بمتابعة لاعبيهم المفضلين في البطولة الإسبانية، واحتساء الشاي في المقاهي التي تتوافر بها خدمة الويفي.. جُلنا نهدر أوقاتنا في أشياء صغيرة لا قِيمة لها، في حين نضيِّع ما ينفع الناس في أعمالنا، ونستهين بواجباتنا قبل تضييع المطالبة بحقوقنا؛ فقد العمل لدينا قيمته لأنه لم يعد المسلك الوحيد للرزق في ظلِّ توافر طرق أخرى كثيرة غير مشروعة، وفقد التعليم جاذبيته لأنه لم يعد السبيل الوحيد للترقِّي الاجتماعي في زمن المضاربة والسمسرة، وفقد العمل من أجل الأوطان معانيه خارج عمل الأحزاب السياسية البائسة.

لعلَّنا نجد هنا وهناك في واقعنا أشياء جميلة، ولكن حجم القبح الذي نحياه أفقدنا الإحساس بأهميتها، مع أن لها وقعا مؤثرا في نفوسنا المرهقة، ولعل أملنا في أن نغير ما بأنفسنا لا يزال قائما رغم بشاعة ما نجده أينما ولَّينا وجوهنا، وحتي تعود البسمة إلى وجوه أطفالنا بعد نوم لا يعكر صفوه قصف، وتعود قوافل المهجَّرين التي احتضنتهم السيدة ميركل وغيرها في أوطانها، وحتى يستعيد اليمن سعادته، وترفل من جديد واحة الشام في أمنها وبهجتها المفقودة، وتنعم طرابلس بما عهدته من رخاء في عهد شهيدها، وتتخلص عاصمة الرشيد من آثار محنتها البالغة، لن ننعم بالحياة كما تنعم الأنعام.

تعليق عبر الفيس بوك