مدرين المكتومية
هناك في الضفة الأخرى من هذا العالم الكبير، أناسٌ يعيشون حياة مختلفة، ليس كما نعيشها نحن الأصحاء، فنحن نعيش بسلام، نتحرك كما نريد، ونمارس مختلف الأنشطة التي نحب، وفي الوقت والمكان الذي نريد، نسافر ونعمل وندرس ونمارس الحياة وننام ونستيقظ كما نريد، دون التفكير بشيء، أو وضع ترتيبات واستعدادات لمُفردات حياتنا اليومية، وبالكاد لا نعيش مُعاناة تشغل حيز العقل، وتجعلنا نعاني من الوساوس والأحزان. إلا أنَّ الصحة التي يمتلكها الفرد شيء لا يقدر بثمن، نعمة يتمناها المَرضى، أولئك الذين يَئِنون طوال الليل مع آلامهم المبرحة، والذين يستيقظون وينامون على مُهدِّئات، أولئك الذين يطوفون بقاع الأرض بحثاً عن علاج، ويخذلهم الطب فيها.. أولئك مَنْ نجد غرف المستشفيات تضج بهم وبأوجاعهم.
قد لا يشعر صحيحُ الجسد والعقل بكل هذا، وقد لا يقدر تلك النعمة حقَّ تقدير، فتجده يغتال لحظات سعادته بالتفكير في أمور مزعجة، ويتخيل أن العالم بأكمله ضيق، وأنه الوحيد المعرَّض لكل تقلبات الحياة وعوارضها، دون أن يفكر للحظة أن الله منَّ عليه بالصحة والعافية، وأنه يمتلك أجمل نعمة على وجه الأرض، والكثيرون يتمنونها ويحلمون بها ليل نهار.
حين نفكر بكل ما نملك، سنكتشف بعد مرور الزمن أنَّ كل هذه الأشياء ما كانت لتحدث لولا تمتُّعنا بالصحة؛ فالمليونير الذي يمتلك كل تلك الأموال قضى وقتا طويلا من الزمن في تجميعها، والحرص على زيادتها، وبمجرد أن يُصاب بمرض عضال يظل طوال الوقت يستنزفها في البحث عن علاج، فمهما كان لديه ما يملك لن تغفر له أمواله ولن تخفف عنه، بل سيقضي ما تبقى من عمره في البحث عن علاج، والمشهور الذي يجد ملايين المتابعين والمهتمين والمتعلقين به، بمجرد إصابته بمرض ما سيضيق به الكون، وسيشعر أنَّ كل هذا الكم الهائل من الناس حوله لن يُضيفوا إليه أي شيء، فيبدأ الشعور بالحزن والألم والوحدة، وأن كل ما قام به وكان من تفاصيل حياته مجرد شيء غير محسوب وبلا قيمة، وأن مسيرة الحياة توقَّفت هنا.
والحقيقة أنَّ الإنسان يحتاج دائما لوقفة مع النفس، يُراجع فيها كل ما قام به، وينظر للجوانب الرائعة التي تحقَّقت في حياته؛ ليعلم كلَّ العلم أنه ما كان كل هذا ليتحقق لولا الصحة التي يتمتع بها، وأن تلك الصحة هي أعظم نعم الخالق عز وجل، وهنا يجب علينا امتناناً لتلك النعمة أن نشعر بالآخرين مِمَّن حُرموا منها، أن نشعر بمعاناة أولئك الذين يتألمون ليل نهار ولا يجدون من يخفف عنهم، هؤلاء الذين لا يعرف حجم معاناتهم ولا يسمع أنينهم طوال الوقت سوى من يعيشون معهم؛ فيكفيهم أنهم يشعرون أنْ لا سبيل لعلاج حالات أبنائهم المزمنة، وأنهم يعيشون بقدر صعب أن يغيره إلا الله القدير برحمة منه؛ فهؤلاء الأشخاص الذين يعيشون في هذه الحياة وهم يمارسون أكثر من واجب ومهمة، وبشكل مضاعف، يستحقون أن نشعر بهم، ونشعر أيضا بعظمة الصحة التي تفضل الله بها علينا؛ فالأصحاء يجب أن يكونوا حامدين وشاكرين، وأن يدعوا للمرضى أن يخفف الله عنهم ويعينهم على ما هم فيه.